معضلة الهجرة السرية

03:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. إدريس لكريني

تبرز تقارير الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، أن هناك تفاوتاً صارخاً بين دول الشمال ونظيرتها في الجنوب، تعكسه مؤشرات التنمية الإنسانية لدى الجانبين.
وتشكل منطقة المتوسط فضاء يعكس هذا التباين الواضح، بين ضفة شمالية تعيش معظم دولها مظاهر من التقدم على المستويات الصناعية والفلاحية والاقتصادية والتكنولوجية، إضافة إلى الاستقرار السياسي.. وضفة جنوبية ما زالت الكثير من أقطارها تعيش على إيقاع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما خلّف الكثير من المعضلات كالتطرف والتهريب والهجرة السرية، وهي الملفات التي تحظى بنقاشات حادة بين الجانبين.
ورغم الجهود المبذولة لتعزيز التعاون بين الطرفين، تشير الممارسات الميدانية إلى أن حصيلة هذا التعاون لم تكن بحجم طموح دول الضفة الجنوبية من المتوسط، بصدد عدد من الملفات، بسبب تركيز الجانب الأوروبي على القضايا الأمنية في مقابل تهميش قضايا الاستثمار والتعاون الاقتصادي.
وتبرز قضية الهجرة السرية كأحد التحديات بإشكالاتها وانعكاساتها على الطرفين معاً، فالتعامل الأوروبي مع الظاهرة تميّز على امتداد العقود الأخيرة التي شهدت تزايداً في حدة هذه الهجرة بتغليب الهاجس الأمني على حساب المعاناة الإنسانية، من جهة، ومحاولة تصدير الأزمة إلى دول الضفة الجنوبية من المتوسط واعتبارها بمثابة «شرطي مرور» للراغبين في عبور المتوسط نحو الضفة الشمالية، دون تقديم الدعم والعون اللازمين للتعامل بقدر من الشمولية والموضوعية مع الظاهرة، بما يجعلها في ارتفاع مستمر.
وأمام هذا الارتفاع المتزايد بسبب تفاقم المشكلات الاجتماعية والتوترات السياسية والعسكرية في عدد من الأقطار الإفريقية وسوريا، حاولت دول الاتحاد الأوروبي اعتماد مجموعة من التدابير والإجراءات الصارمة، التي ركزت على إغلاق الحدود وتعزيز المراقبة الأمنية، ودفع دول خارج محيط الاتحاد للقيام بأدوار توقف عبور المهاجرين نحو ترابها. ويبدو أن الاتفاق المبرم مع تركيا في هذا الصدد، أصبح يشكل بالنسبة لكثير من دول الاتحاد تجربة جديرة بالتكرار مع دول الضفة الجنوبية من المتوسط، خاصة أنه أسهم في تراجع حدة الهجرة السرية نحو دول الاتحاد الأوروبي بصورة ملحوظة.
لقد أسهمت الأوضاع الأمنية الليبية المتردّية منذ 2011 في تصاعد النزوح البشري نحو الضفة الأوروبية من المتوسط، بعدما أضحى التراب الليبي فضاء مفضلاً لنشاط شبكات التهريب والهجرة السرية، غير أن الاستقرار النسبي في البلاد، وتورط هذه الشبكات في انتهاكات خطيرة في حق المهاجرين، كلها عوامل أسهمت في تراجع عدد المهاجرين السريين عبر التراب الليبي، كما شهدت الهجرة السرية عبر تونس أيضاً، تراجعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة.
وما زالت النقاشات السياسية لعدد من النخب داخل معظم الدول الأوروبية تراهن على تحميل تدبير ملف الهجرة السرية لدول الضفة الجنوبية من المتوسط، لمواجهة الحالمين بالانتقال إلى أوروبا، في غياب تام لمقترحات بناءة وموضوعية، تسمح بمعالجة الظاهرة من جذورها عبر الآليات التنموية والاستثمارية. إن استمرار دول الضفة الشمالية من المتوسط على نهج سياساتها السطحية في التعاطي مع ظاهرة الهجرة السرية، يفرز إشكالات صعبة بالنسبة لدول الضفة الجنوبية، التي تجد نفسها وجهاً لوجه أمام تحديات جسام، يفرضها هذا الملف الضخم بسبب ضعف الإمكانيات الاقتصادية والتقنية اللازمة. لقد راكم المغرب خلال السنوات الأخيرة مجموعة من المكتسبات على مستوى سن تشريعات وسياسات تكفل التعاطي البناء والمتوازن، مع ظاهرة الهجرة بكل أصنافها، وسمحت هذه السياسات والتدابير ببلورة مداخل توازن بين حفظ النظام واستحضار الجوانب الإنسانية للظاهرة، خاصة أن المغرب أضحى وجهة مفضلة للعديد من المهاجرين القادمين من أقطار إفريقية مختلفة، بغرض الاستقرار أو العبور نحو الضفة المتوسطية الأخرى.
وهكذا تمت تسوية أوضاع عدد كبير منهم، وقد تعززت هذه السياسة مع انضمام المغرب للاتحاد الإفريقي. ورغم ذلك، فتدبير هذا الملف لا يخلو من صعوبات جمة بالنظر إلى الإشكالات التي يفرزها على المستويات النفسية والصحية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، فقد أثار قيام المغرب أخيراً بترحيل عدد من المهاجرين السريين من مدن الشمال بالمملكة، نحو مدن أخرى جنوباً، قلقاً في أوساط عدد من المنظمات والجمعيات المعنية بقضايا الهجرة، حيث اعتبرتها مساً بحقوق هذه الفئة، وهو ما ردت عليه السلطات المغربية بأن الأمر لا يتعلق بإبعاد طالما تم داخل حدود المغرب وفي إطار القوانين الجاري بها العمل؛ بل إجراء يهدف إلى إبعاد المهاجرين السريين عن شبكات التهريب التي بدأت تنشط في المنطقة، بعد تضييق الخناق عليها في ليبيا، معتبرة أن المغرب لن يلعب دور «الدركي» لحماية الحدود الأوروبية، مؤكدة أهمية التنسيق والتعاون وتقاسم المسؤوليات في هذا الصدد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"