مقتلة نيوزيلندا ونظرية «الاستبدال الكبير»

03:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

من الأهمية بمكان قراءة «المانيفستو» الذي نشره على تويتر الإرهابي الأسترالي برينتون تارانت، قبل دقائق من ارتكابه فعلته البشعة يوم الجمعة ١٥ مارس/آذار الماضي. يقع هذا «المانيفستو» في ٧٤ صفحة تحت عنوان «الاستبدال الكبير، نحو مجتمع جديد»، وهو مستوحى من نظرية نشرها الكاتب الفرنسي رينو كامو في العام ٢٠١١ تحت هذا العنوان نفسه، تقول بوجود مشروع متفق عليه بين «النخب العولمية» لإحلال اللاجئين من إفريقيا الشمالية محل الفرنسيين الأصليين.
يقدم تارانت نفسه ك«قومي أبيض» يتبنى مقولة ديفيد لين الشهيرة، وهو نازي جديد أمريكي توفي في العام ٢٠٠٧، حول «ضرورة المحافظة على وجود العرق الأبيض ومستقبل الأطفال الأمريكيين البيض». لكنه يختلف مع لين الذي يحمّل اليهود مسؤولية «الإبادة الجماعية للعرق الأبيض رداً على هتلر الذي فشل في إبادتهم إبان الحرب العالمية الثانية»؛ إذ يقول تارانت بأنه ليس معادياً للساميين إذا كانوا يعيشون في بلادهم ولا يسعون إلى إيذاء «شعبي الأوروبي الأبيض». كما أنه يستوحي فعلته من النرويجي أندرس بريفيك الذي ارتكب مجزرة أودت بحياة ٧٩ شخصاً في جزيرة أوتويا النرويجية في ٢٢ يوليو/تموز ٢٠١١، والذي لم يعلن الندامة على فعلته إلى اليوم.
يكشف تارانت عن أيديولوجية هجينة تخلط ما بين العنصرية والقومية-الإثنية والفاشية، والإيمان بالتفوق المطلق للعرق الأبيض. ويعلن قناعاته الفاشية ومرجعيتها الفاشي البريطاني أوسوالد موسلي، معتبراً إياه الشخص التاريخي الأقرب إلى معتقداته.
لقد أراد من وراء بثه لجريمته على الهواء مباشرة، عبر فيسبوك، زرع الرعب في صفوف الجاليات العربية والمسلمة، وتقديم البرهان «للأوروبيين عن كيفية الدفاع عن أنفسهم ضد غزو الجماعات المهاجرة». والمقصود بالأوروبيين أو «الشعب الأوروبي» هو العرق الأبيض الذي يتعرض، في رأيه، إلى غزو السود الأفارقة والعرب والمسلمين. ويقول بأن مقتلة المسجدين تريد «جلب الانتباه إلى حقيقة الهجوم على حضارتنا، وبأن ما من مكان في العالم في مأمن، فالغزاة موجودون في كل بلداننا، حتى في المناطق البعيدة والنائية فيها». وهذا القول وافق عليه أحد النازيين الجدد الفرنسي دانيال كونفرسانو الذي وصف نفسه عبر اليوتيوب «بالفاشي المتخلص من عقدته» قائلاً: «هل كنتم تعلمون أن هناك مساجد وصلت حتى إلى نيوزيلندا؟ أنا عرفت ذلك هذا الصباح» (أي بعد انتشار خبر مذبحة المسجدين).
الهدف الآخر الذي سعى إليه تارانت هو التسبب بحرب أهلية. هذا سيناريو يخشاه بالفعل مدير الأمن الداخلي الفرنسي السابق باتريك كالفار، الذي شرح أمام لجنة التحقيق البرلمانية التي تحقق في تفجيرات ١٣ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٥ في باريس بأن «فرنسا كانت على شفير حرب أهلية». فعلى طول صفحات المانيفستو العنصري والعنفي المتطرف يدعو بأحرف كبرى إلى «قتال الغزاة» من غير البيض، ويتوعد اللاجئين، متوجهاً إلى الأتراك بالقول: «اهربوا إلى بلادكم ما دام ذلك ممكناً».
يشدد هذا الخطاب ذو النكهة الأنجلوساكسونية اليمينية المتطرفة على المحافظة على فئة «الواسب» (الشعب الأبيض الأنجلوساكسوني)، مكرراً القول بأن نسب الولادات المرتفعة عند غير البيض تشكل تهديداً يصل إلى «الاستبدال الكبير» الذي سيحصل عبر «الإبادة الجماعية» للبيض. هذه الأطروحة العزيزة على قلب اليمين المتطرف الغربي تتصور بأن اللاجئين سيحلون مع الوقت محل الشعوب الأوروبية الأصلية. ويقدم تارانت فرنسا كمثال، قائلاً بأنه زارها كسائح وشاهد بأم عينيه كيف أنه «في كل مدينة وكل قرية فرنسية كان الغزاة هناك». فرنسا، في نظره، «بلد محتل من غير البيض»، وهناك حدثان شكّلا نقطة انطلاقه إلى تنفيذ فعلته الإرهابية: الأول هو هزيمة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في وجه ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية العام ٢٠١٧، والثاني هو العملية الإرهابية في استوكهولم، التي قتلت خمسة أشخاص في ٧ إبريل/نيسان ٢٠١٧. ويصف الرئيس ماكرون بأنه «عولمي رأسمالي مؤيد للمهاجرين ومساواتي ومصرفي سابق، لا قناعة وطنية له سوى البحث عن الربح». أما لوبان فهي «غير قادرة البتة على إحداث تغيير حقيقي، ولا تملك أي مخطط فعلي لإنقاذ وطنها، لكن فوزها كان يمكن أن يشكل بداية لمثل هذا التغيير».
ومن جهته فإن الكاتب أريك زمور، على سبيل المثال لا الحصر، سبق ونشر كتاباً بعنوان «الخضوع»، يتصور فيه سيناريو تحوّل فرنسا إلى جمهورية إسلامية، كما أيّد في مقالة له في «الفيغارو» (١ /٩ /٢٠١٦) وجود مخطط استبدال كبير. أمثال لوبان وزمور وكامو وميشال هولبيك وروبير مينار إلخ.. بات لهم قراء ومناصرون. وكثير ممن ندّدوا صوريّاً بمقتلة نيوزيلندا (منهم الكاتب كامو نفسه!!) يجدون أنفسهم في سطور مانيفستو القاتل. هؤلاء من اليمين المتطرف الذين يحضّون على كراهية «الآخرين المختلفين»، لاسيما من العرب والمسلمين، هم الذين يدفعون في اتجاه «الاستبدال الكبير» لصورة مجتمعاتهم من الانفتاح والتسامح إلى التعصب والعنصرية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"