ملكية الأرض.. وإعادة توزيع العمران

01:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

للفيلسوف السياسي (جون لوك) نظرية شهيرة حول ما يسمى (المحتل الأول) أي أول من تواجد على الأرض في منطقة معينة، وكأنما كان (جون لوك) يرى منذ عدة قرون المفهوم السائد في مصر حول ما يسمى (وضع اليد) الذي يمارسه المصريون الأعراب والبدو خصوصاً في الساحل الشمالي وبعض المناطق الصحراوية المتاخمة للمدن والقريبة من العمران، وأتأمل أحياناً من هو الذي امتلك الأرض قبل غيره.
لا بد أن منطق القوة للسيطرة على بعض البقاع هو الذي حكم الأمر برمته وحتى عندما كان محمد علي يوزع (الشفالك والأبعديات) فإنه كان يمنحها لذوي النفوذ في مناطقهم ومن أسدوا خدمات جليلة للسلطة، ولذلك فإنني أظن أن قضية الملكية قد بدأت بمفهوم القدرة البدنية وتمكن البعض من إقصاء البعض الآخر إلى أن دخلنا في مراحل متقدمة من تنظيم الدولة بحيث أصبحت هناك قواعد وقوانين ولوائح تنظم ملكية الأرض أو حيازتها بمعنى التخصيص أو حق الانتفاع بها وفقاً لمدة زمنية معينة.
أشعر بارتياح عندما أجدهم في المملكة المتحدة يقررون أن كل شيء ملك للتاج وأن ملكية المواطنين بريطانيين وأجانب محكومة بمدد زمنية وفقاً لعقود الملكية حتى تلك التي تكون ملكية مفتوحة Free hold فإنها تخضع في النهاية لسيطرة التاج الذي هو رمز الدولة ومكانتها العالية، ولعلّي أهدف من هذه المقدمة أن أبسّط أمام القارئ بعض الحقائق:
أولًا: إن الأرض هي مصدر الثروة ومنبع المعادن الصلبة والسائلة ومخزن المياه الجوفية الذي لا ينضب وهي أم البشرية، وعلى الرغم من أن نسبة مساحة اليابسة إلى البحار والمحيطات تبدو ضئيلة إلاّ أن سكانها هم الذين يغزون تلك المحيطات والبحار لأنها هي الأخرى مستودع للثروات القابعة تحت المياه وفيها، وإذا كان الإنسان لا يستطيع إلاّ أن يعيش على الأرض فإنه يستطيع أن يجد غذاءه من البحار والمحيطات أيضاً، إنه عالم عجيب يخضع لدرجة عالية من التوازن، فحكمة الله في الكون هي التي جعلت فلسفة الوجود تجعل كل شيء ميسراً لما خُلق له بدءًا من الإنسان أرقى المخلوقات وصولًا إلى الخلية الوحيدة أصغر الكائنات.
ثانيًا: إن (آدم سميث) في كتابه (ثروة الأمم) يعطي الأرض منزلة خاصة بين وسائل الإنتاج، لذلك فإن الدول تحارب من أجل قطعة أرض ولو صغيرة، ومصر أمضت أربع سنوات تتفاوض من أجل منطقة (طابا) وهي مساحة محدودة للغاية ولكن يبقى المعنى وهو ضرورة احترام سيادة الدولة على إقليمها وقدرتها في الدفاع عنها حرباً وسلماً.
ثالثًا: إن الصراع على الأرض في مصر يبدو صعباً للغاية فالمساحة المأهولة من الخريطة المصرية لا تتجاوز كثيراً ستة بالمئة بينما السكان يتزايدون في انفجار بمتوالية هندسية تدعو إلى القلق، لذلك؛ فإنّ الأرض في مصر، هي مصدر الثروة الأول كما أن الملكية العقارية هي أفضل وعاء لحفظ قيمة النقود وهي مصدر الثراء المركب والأرباح الطائلة.
والعجيب في الأمر أن المصريين يتزاحمون في المدن وعشوائيات حولها وينزحون من الريف إلى الحضر بمعدلات عالية حتى أصبحت المدن قرى كبيرة وأضحت القرى مدنًا مشوهة! فالمصري لا يرتاد الصحراء ولا يحب المناطق المهجورة ولكنه يسعى إلى التواجد في بقاع مزدحمة حتى ولو ضاق به الرزق، وقد آن الأوان لكي يخرج من هذا الإطار ويضرب في أرض بلاده سعيًا نحو حياة أفضل ولو بعد حين، فالصحاري الواسعة والأراضي الملاصقة لشريط الوادي الضيق وغيرها من البقاع غير المأهولة تحتاج إلى إعادة توزيع (ديموغرافي) بحيث ينطلق الشباب ليبني ويعمّر ويصنع مصر الحديثة بكل المعاني، لذلك فإنني أرى أن إنشاء العاصمة الجديدة يجب أن يكون بداية زحف عمراني مخطط نحو امتدادات العمران المصري القديم.
رابعًا: كلما أتاحت لي الظروف - خصوصًا في شهور الصيف - أن أعبر طريق (مصر - الإسكندرية) إلى (العلمين) وأرى المساحات الهائلة لملايين الأفدنة من الأرض المنبسطة التي كانت مزرعة القمح للرومان تصدمني مأساة الألغام المزروعة في أحشاء تلك الأرض الطيبة وأطالب بحل مصري دولي عاجل لتلك المشكلة التي صدرها لنا أطراف الحرب العالمية الثانية، ورغم جهود الحكومة المصرية ممثلة في قواتها المسلحة لتطهير أجزاء منها إلاّ أن الأمر لازال يحتاج إلى دعم دولي تتحمل فيه الدول التي زرعتها مسؤوليتها الكاملة لأن الأمر يحتاج إلى نفقات باهظة، ولقد تذكرت هذه المنطقة مؤخرًا عندما سمعت (البابا فرانسيس) يقول في خطبته أمام الرئيس السيسي وكبار المدعوين إن مصر التي أطعمت العالم قمحًا في سنوات المجاعة، مطالبة اليوم بأن تقدم للعالم قمح السلام في مواجهة الإرهاب!
خامسًا: سوف يتحدد مستقبل الوطن المصري في ضوء قدرتنا على الاستفادة من المساحات الشاسعة وغير المأهولة مع النظر في إعادة توزيع العمران بما يخدم الاستثمار والسياحة. ولعلنا نتذكر في هذا السياق مأساة الساحل الشمالي الذي جرى زرع المصايف الأسمنتية على امتداده دون خطة مدروسة أو رؤية شاملة أو نظرة متكاملة، وكان من الممكن أن يكون هو (الريفيرا المصرية) التي تضاهي نظيرتيها الفرنسية والإيطالية ولكن لأننا بلد العشوائيات فقد استقر في أعماقنا التفكير العشوائي أيضاً!
إنني أكتب هذه السطور وقلبي يكاد ينزف حزنًا على الفرص الضائعة ثم يكاد يقفز تطلعاً للفرص القادمة، فالأرض لأصحابها وليست للمحتل الأول وحده، فالشعوب هي مالكة المصير وصانعة الحياة ومشيّدة المستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"