من التآكل إلى التكامل

02:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

العبارة الواردة في عنوان هذا الحديث جاءت في مقال للكاتب والمفكر خيري منصور يتحدث فيه عن الواقع العربي والتآكل السائد في بعض أقطاره والزاحف بقوة نحو البقية، وأكد على ما تقتضيه الضرورة لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، من إحلال التكامل بدلاً عن التآكل. ولهذه الأمة التي باتت تأكل بعضها من الإمكانات ما يجعلها في حالة التكامل المنشود واحدة من أهم الأمم الموجودة على هذه المعمورة.
والمشكلة في أن أنصار التجزئة ظنوا أو توهموا أن مصالحهم الشخصية، وربما مصالح أقطارهم لن تتحقق إلاَّ بالتفتت والانكفاء على الذات الإقليمية، وكانت العاقبة خلاف ما تصوره هؤلاء الانعزاليون: اقتتال، وحروب، واستسلام مخيف للموت المجاني، والتضحية بالأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، والدفع غير المحسوب بالشباب إلى المحارق، مع أنهم خُلقوا لمهام أفضل وأبقى من الحروب العبثية التي تزرع الموت في كل مكان، ولا تعطي سوى المزيد من نزيف الدم والتشظي والضياع، وفتح الأبواب للقوى المعادية والمتربصة لكي تهيمن وتسود، وفي المقدمة الكيان الصهيوني الذي كان وما يزال يخشى كل خطوة جادة نحو التكامل والتكتل السياسي والاقتصادي والعسكري.
إن الحيوانات ليست وحدها التي بلا عقل يدلها على ما يراد بها، بعض البشر هم - للأسف - مثل هذه الحيوانات بل هم - كما حدثنا القرآن الكريم - أضلّ سبيلاً، وقد كان لنا نحن أبناء هذه الأمة التي تأكل بعضها عبرة مبكرة - لو كنا نعقل - بما نزل بشعب شقيق مضطهد ومشرّد عن أرضه، ورغم التزامنا الشامل بقضيته التي سميناها بالمركزية، فإن وضعه يزداد سوءاً ومأساته تعكس نفسها بقوة على الواقع العربي في أشكال من التخاذل المخزي الذي قاد ويقود أقطاراً أخرى إلى المصير نفسه، وما حدث في العراق الشقيق وما يحدث في سوريا وغيرها يؤكد حقيقة أن العرب لا يعتبرون، وأنهم يصرّون على أن يتآكلوا بدلاً من أن يتكاملوا، وأنهم يسارعون الخطى نحو التفكك، بعيداً عن كل ما يربط بينهم من وشائج القربى ووشائج الجغرافيا، وما سوف يترتب على هذا الواقع المخيف من نتائج يصعب على العقل تصور ردود أفعال آثارها القريبة والبعيدة، سواء على كل قطر على حدة، أو على مجموع هذه الأقطار.

وكثيرة هي الأفعال والأقوال التي تبعث على الحسرة في واقعنا العربي الذي يسير منذ سنوات من السيّئ إلى الأسوأ، وهو ما يصدم بقسوةٍ أولئك النفر من المتغافلين الذين لا يزالون يرون أن في الإمكان تفادي الوقوع في الهاوية تلك التي بلا قرار، والتي ظللنا نزحف نحوها ببطء منذ ما قبل نكبة 1948م، وإلى آخر منزل يتهدم في سوريا والعراق أو في غيرهما، وإذا كان ضلوع القوى المعادية فيما يحدث هنا وهناك من الوضوح بمكان، إلاَّ أن العامل الأساسي في كل هذا الذي يجري داخلي، وأن أسباب التآكل داخلية ومحكومة بالرغبات والأهواء، وعدم الاحتكام إلى العقل أولاً وإلى الضمير الوطني ثانياً وإلى غياب الشعور بالمسؤولية ثالثاً ورابعاً إلخ. إن أي عدو مهما كانت مستويات أطماعه ومهما كانت قدراته على اختراق حياة الشعوب لا يستطيع أن يجد طريقه إلى بلدٍ ما لم يكن أبناء هذا البلد على استعداد مسبق للتوافق مع ما يريد ذلك العدو أن يطرحه أو يحققه.

إن التعصب لموقف ما والانغلاق على هذا الموقف من عدوانية ورفض مطلق للآخر حتى لو كان هذا الآخر شقيقاً أو شريكاً في المواطنة، هذا التعصب المقيت هو وراء كل هذه المنازعات والاقتتالات التي تجتاح أقطار الوطن العربي، وتغلق الأبواب في وجه كل محاولة صادقة وجادة لإخراج الوطن العربي من محنته الراهنة، وإصغاء أبنائه لصوت العقل واستبدال التآكل بالتكامل بوصف هذا الأخير طوق النجاة من الانقراض.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"