من يحكم العالم؟

02:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
عنوان هذا المقال هو ذاته عنوان كتاب جديد لأحد أشهر وأهم مفكري اليسار السياسي الأمريكي في العصر الحديث ، وهو ناعوم تشومسكي، والذي نشرت العديد من المواقع السياسية جانباً من مضمونه قبل أيام. السؤال ليس محاولة للبحث عن الطرف أو الأطراف التي تحكم العالم وتتحكم في مصيره ومساره. ولكنه دعوة للتفكير في الكيفية التي تدار بها شؤون العالم، وصراع الإرادات بين القوى المختلفة سواء المهيمنة أو الصاعدة أو المهشمة، لفرض كلمتها وتحقيق مصالحها وخدمة أهدافها.

الإجابة المباشرة هي أن الولايات المتحدة ومعها المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية الكبري، والشركات متعددة الجنسيات هي التي تحكم العالم وتتحكم فيه. يستدعي الكاتب مقولة أبو الاقتصاد الحديث آدم سميث حول «أسياد العالم». ومن وجهة نظره لن نفهم بصورة واقعية من يحكم العالم وكيف يمارس حكمه وهيمنته، إذا تجاهلنا هؤلاء «السادة» وتمثلهم حالياً التكتلات الاقتصادية العملاقة والهيئات المالية الكبرى، ومعها الدول الغربية بزعامة واشنطن. ولأنهم أسياد البشرية فإن سلوكهم الذي يرصده سميث تلخصه عبارة واحدة هي: «الكل لنا ولا شيء للآخرين».
ومن خلال الاتفاقيات التجارية الدولية ومنظومة القوانين العالمية، يفرض هؤلاء السادة رؤيتهم على العالم، ويضمنون أن كل شيء سيصب في صالحهم. وليس للشعوب بما في ذلك شعوب الدولة الديمقراطية المتقدمة سوى أن تلعب الدور الوحيد المرسوم لها وهو دور الكومبارس أو حتى المتفرّج فقط، وليس المشارك. إلا أن تلك الجماهير تبدي في المقابل مقاومة بأشكال عدة لحبسها في هذا الدور.

يفسّر هذا لماذا ينصرف الناخبون عن الأحزاب التقليدية والسياسيين المنتمين للتيار السائد ، انحيازاً إلى أحزاب ومرشحي اليمين أو اليسار المتشددين.

يرصد تشومسكي ملاحظة مهمة في هذا الصدد ينقلها عن مدير مجموعة يورونوفا البحثية في باريس بشأن تحرر الجماهير من الوهم السياسي الذي تتصدى النخبة الحاكمة في الغرب لتسويقه. في رأي هذا الباحث أن ما يصفه بحالة «الغضب العاجز» هي التي تحرك المواطنين في هذا الاتجاه الاحتجاجي. وهذه الثورة الصامتة تعني رفض الاتجاه العالمي الرامي إلى تحويل عملية صناعة القرار من القادة المحليين من جهة إلى المؤسسات المالية العالمية من جهة أخرى.

يعتبر تشومكي هذه الظاهرة تعبيراً عن رفض الجماهير للمحاولات الدائبة والمتعمدة لتهميشها حتى في الديمقراطيات العريقة. ولا يكتفي برصد هذه الحقيقة التي قد تكون مفاجئة وصادمة للقارئ العربي، بل يضيف إليها صدمة أخرى بالحديث عن حالة التعالي المسيطرة على النخبة الحاكمة في الغرب عند تعاملها مع الجمهور العادي. يضرب لذلك مثلاً بحديث الرئيس الأمريكي «الأسطوري» جورج واشنطن عن الناس العاديين، عماد قواته التي حارب وانتصر بها. يصفهم بأنهم «قذرون للغاية ويبرهنون على قدر لا نهائي من الغباء المتفشي بين العامة».

انتقلت نفس الروح المسكونة بالغطرسة والتعالي من مستوى التعامل بين النخبة وأفراد شعبها، إلى مستوى التعامل بين الدول والمؤسسات الكبرى وبقية بلدان وشعوب العالم. وكما يحدث التمرد على مستوى الدولة الواحدة فإنه يحدث أيضاً على المستوى العالمي بين الدول، وهي ملاحظة أخرى يرصدها تشومسكي. ويرى أن الغزو الأمريكي للعراق كان مناسبة مهمة تبلور فيها هذا الاتجاه.
ذلك أن التحالف الوطيد عسكرياً وسياسياً بين تركيا والولايات المتحدة لم يمنع الأولى من رفض مطالب الثانية بالاشتراك معها في الغزو. تمردت أنقرة على رغبة واشنطن نزولاً على رغبة الشعب التركي بعد أن أظهرت الاستطلاعات أن 59% منه ضد الحرب. صدم هذا التمرد المفاجئ صقور المحافظين الجدد في إدارة بوش الابن حتى أن أحد متطرفيهم وهو بول وولفويتر وبّخ الجيش التركي علناً لسماحة للحكومة بهذا التصرف غير المقبول وطالبه بالاعتذار!.
لم يكن الشعب التركي وحده هو الذي رفض الغزو. في الولايات المتحدة ذاتها خرجت الجماهير ترفض الحرب ، وترفض معها انفراد النخبة السياسية بإدارة وتوجيه البلاد وإملاء إرادتها على العالم بأسره. يشير تشومسكي هنا إلى عبارة بليغة كتبها الصحفي باتريك تيلور في الصفحة الأولى ل«نيويورك تايمز» هي «في العالم قوتان عظميان هما الولايات المتحدة والرأي العام العالمي».
وبسبب تلك القوة العظمى الجديدة يعتقد تشومسكي أن الإدارة الأمريكية أحجمت عن القيام بكل ما كانت تود تنفيذه خلال هذه الجريمة الدولية، أي الغزو، لأن الضغط الشعبي عليها كان قوياً. ودون التقليل من بشاعة الغزو والجرائم التي ارتكبت خلاله وبعده وبسببه ، فإن بوش لم يفعل في العراق ما فعله جون كيندي أو ليندون جونسون قبله بأربعين عاماً في فيتنام، لأنه وقتها لم يكن الضغط الشعبي بنفس القوة.
الرأي العام إذاً ، فرض نفسه لاعباً أساسياً في صنع السياسة الدولية وأظهر قدرته على التمرد وتغير مسار الأحداث.

عاصم عبد الخالق
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"