ميكيافيلي الغائب الحاضر

04:47 صباحا
قراءة 4 دقائق

* لا يزال كتاب الأمير لميكيافيلي، بعد خمسة قرون على كتابته، المعلم الأول للسياسة الدولية، تستوحي قواعده، وتستلهم منه النصيحة والمشورة .

خمسة قرون مضت، ومازالت الميكيافيلية مدرسة للتفكير السياسي الخالي من المعايير الأخلاقية، إن على مستوى امبراطورية أو دولة، أو على مستوى بلدية صغيرة، يرفض مجلسها البلدي منح بعض مواطني البلدة، حق العبادة لطائفة، أو حتى دفن موتاها في مقبرة خاصة .

وحينما تخلو السياسة من قيم الأخلاق الإنسانية، تتسرب ممارساتها إلى مألوف الناس اليومي، وتشيع ثقافة الإقصاء والتمييز، وتزدهر حاضنات الانتهاكات الفظة للقانون والعدالة .

ان قيم الأخلاق الإنسانية، تحمل عادة صفة الشمول والكونية، ولا تفرض من خلال القانون، وإنما تحدد العلاقات بين الناس، وبين الناس والدولة، وبين الدول في البيئة الدولية في إطار من المعايير والقيم غير المادية وغير القياسية، كالصدق والوفاء بالعهود والتعهدات، والمبالاة مجمل المسؤولية المجتمعية والدولية، وهي ثابتة ونهائية ولا تخضع للتطور، وهي بذلك تختلف عن الأعراف والمعرفة التي تتطور حسب الزمان والمكان .

في السياسة الميكيافيلية، لا يهم صاحبها الوسائل المستخدمة في تحقيق الغايات المنشودة، ولا يعنيه لو هدم سد مائي . في مقابل حصوله على كأس ماء، وإذا ما ترسخت هذه السياسة الخالية من الأسس الأخلاقية، وأصبحت نمطاً للحياة وللعلاقات الدولية، فإنها لا تتعرض لنبذ المجتمع أو البيئة الأكبر .

في هذا العصر، تبدو روح السياسة الدولية ضائعة، فهي تتحدث مثلما تحدث أوباما في سنته الأولى من الحكم، لكنها تفكر مثل بوش الابن في سنوات حكمه الطويلة، فتعزل القضايا السياسية عن أسسها الأخلاقية، وتجعل من السياسة أمراً محصوراً بالأقوياء وبمصالحهم، ولا علاقة لها بالناس، الذين يتطلعون إلى عالم أكثر أمناً وعدلاً . ويحلمون بالمشاركة في بناء عالم يصلح للعيش المشترك .

إن الاستهتار بالمعايير الأخلاقية في السياسة الدولية، يؤذي الحاضر، ويدمر ممكنات المستقبل، والأمثلة كثيرة على هذا الاستهتار، وهي ساطعة وفي وضح النهار .

التسلط السياسي، وفقدان الحريات العامة، وتدمير البيئة والموارد الإنسانية، وتهديد الأمن الإنساني، وتنامي قوة لوبيات السلاح والشركات العملاقة، وهي لوبيات الموت والدمار . واستخدام حقوق الإنسان كأداة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وغيرها الكثير من السياسات والممارسات .

إن دولاً ديمقراطية عديدة، تتحدث بصوت عال عن حقوق الإنسان، لكنها ترفض التوقيع على إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الأصلية .

وإن دولاً كبرى، تتحدث باستمرار عن حماية البيئة، لكنها هي الأكبر في التسبب بتلويثها وتدميرها، وترفض التوقيع على اتفاقيات دولية بشأن البيئة والتغير المناخي .

وإن دولة كبرى، لم توقع على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وتعفي نفسها من احترام أي التزامات تجاه هذه المحكمة، لكنها أكثر الدول إلحاحاً على الآخرين بالالتزام بهذه المحكمة .

سياسات دول كثيرة، تعترف بأن الانتخابات التي جرت في أفغانستان والسودان وغيرهما، افتقدت المعايير الدولية، إلا أنها تقبل نتائجها، وهي نفس السياسات الخالية من الأخلاق والمعايير الثابتة، والتي تنقلب إلى الضد، أمام انتخابات نزيهة، جاءت نتائجها غير ملبية لرغبة هذه السياسات .

اليمين في الغرب، والذي ربط مصيره بمصير الكنائس والنظام البطريركي السائد، يبدي الآن شغفه المفرط، بالعلمنة والدفاع عن المرأة، ويطلق النقاش العام في فرنسا مثلاً حول برقع 376 امرأة، وأربع مآذن في سويسرا، بدلاً من معالجة نظم التقاعد والبطالة والأزمة المالية .

السياسة الدولية الخالية من الأخلاق، تحجب حتى التساؤل عن المنشآت النووية الإسرائيلية، وتغمض العين عن عنصرية إسرائيل وعن سرقتها للأرض، واستعمارها الطويل والفظ لشعب، وخرقها الصريح للقوانين الدولية .

في السياسة الدولية التي تفتقر إلى معايير العدل وقيم الأخلاق، ترفع صورة للجندي الإسرائيلي الأسير، على طول بناية عالية تقع بالقرب من شارع الشانزليزيه الشهير بباريس، ولا صوت يرتفع تنديداً بممارسات قوة الاحتلال المنتهكة للقوانين الدولية ولاتفاقيات جنيف الرابعة، ولمواصلة أسرها لأكثر من عشرة آلاف مدني، أطفالاً ونساء وشيوخاً، على مدى عقود .

السياسة الدولية، حينما تضيع روحها الأخلاقية، لا تنظر إلى الآخر، نظرة احترام وندية، فالآخر عندها، لا يشبهنا، بل متخلف وبربري، ولا يتحرك ضميرها، حتى حينما تتسبب شركات نفط عالمية، بكوارث بيئية هائلة في آلاسكا والبرازيل ودلتا النيجر وخليج المكسيك، ويتم تدمير حياة البشر هناك، ويقضي على المياه والنبات والطيور والأسماك .

وتغمض عيونها، حينما تقوم شركات عملاقة، بتمويل الحياة السياسة في أمريكا، ويتحايل بعضها على عقول المستهلكين . وينفق نحو مائة مليون دولار، لتغيير اللوغو الخاص بشركة نفط عالمية، ليصبح أكثر اخضراراً، أي صديقاً للبيئة .

الانتهازية السياسة، التي يتلون ويسبح فيها قادة ومفكروه اليمين المتطرف على مدى عقود، وصلت إلى حد إحياء فكرة حزب الشاي، الذي كان سائداً في أمريكا قبيل الاستقلال، ليبرز اليوم في مقاعد الكونجرس، وشوارع المدن الرئيسية، كقوة ضغط، تجدد الدماء في شرايين اليمين الجديد والكتلة الصهيونية المسيحية، وتعيد تأهيلها، بنزعة عدوانية وعنصرية مفرطة، تضيق بالمهاجرين، وتحرم العالم، من أمريكا الويلسونية، وتكرر مآسي الحروب العبثية الظالمة، وتغلق الآفاق أمام حس الناس بالعدالة، وبالحلم بالمشاركة في صنع عالم أكثر رخاء وأمناً ويليق بهذه البشرية في القرن الحادي والعشرين .

ميكيافيلي . . لم تطوِه صفحات الزمان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"