نحو إصلاح منظومة التعليم العمومي

02:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

طَبع الاهتمام الرسمي بالتعليم كثير من الفوضى والارتجالية وسوء التخطيط، حتى أن سياساته باتت تتغير بتغير الحكومات

يشتكي الجميع، اليوم، من حالة التردي التي يرزح فيها التعليم العمومي الرسمي في البلاد العربية كافة، وعلى تفاوت بينها في مستويات ذلك التردي، ودرجاته. يستدل على ذلك، مثلاً، بمستوى التكوين الهزيل الذي يحصل عليه التلامذة في المدارس، والطلبة في الجامعات؛ بتخلف برامج التكوين، ومناهجه، قياساً بما هي عليه في مدارس البلدان المتقدمة، وجامعاتها؛ بضعف البنى التعليمية الاستيعابية وعدم ملاءمتها لإيقاع التزايد الديموغرافي، وتزايد أعداد من هم في سن التمدرس؛ بالنقص الحاد في التجهيزات المدرسية والجامعية ومختبرات الدراسة وتقادم الموجود منها؛ بضعف مستوى المعلمين والأساتذة والمؤطرين؛ وبغير تلك من الشواهد المستدل بها على مآلاته الانحدارية اليوم. وقد بات في حكم المألوف أن نسمع أحكاماً، تتردد على نطاق واسع، من قبيل أن التعليم لم يعد يملك أن يخرج إلا أنصاف المتعلمين، وأنه لم يعد طريقاً مأموناً نحو الحصول على العمل والترقي الاجتماعي، بدليل أن شهاداته لم تعد ذات قيمة في الصرف الاجتماعي.

ويزيد الطين بلة أن مكانته في السياسات العليا الرسمية تراجعت إن قورنت بما كانت عليه قبلاً، أو إن قورنت بمكانة الأمن، والاقتصاد، وحتى السياحة، في تلك السياسات. وإلى ذلك طبع الاهتمام الرسمي به كثير من الفوضى والارتجالية، وسوء التخطيط، حتى أن سياساته باتت تتغير بتغير الحكومات، أو بتأثير التوصيات من الخارج؛ فكان اللاحق منها ينسخ السابق نسخاً ليأتي بنقيضه، الأمر الذي يعني أنه لم يدخل بعد في نطاق الاستراتيجيات العليا للبناء، والتنمية، في السياسات الرسمية العربية، ولم يقع فيها بعد الوعي الكافي بالأهمية الحيوية الاستراتيجية للتعليم في النهوض التنموي.

وقد كان الفشل الذريع للسياسات الرسمية، في ميدان التعليم، والحصاد الهزيل الذي نتج عنها، في أساس إقدامها على تفويت قطاع التعليم للرأسمال الخاص والاستثمار الخاص، بتعلة التخفيف من أعباء الصرف عليه من المال العام، وتوفير الاعتمادات المالية المصروفة له لصرفها في برامج أخرى للتنمية. وعلى النحو نفسه، مثل الفشل ذاك مطية ركبتها موجة التبشير بفضائل التعليم الخاص، ومزاياه، والزعم بتميز نظم التكوين فيه، ونجاعتها وإنتاجيتها.. إلخ. هكذا تكالبت السياسات الرسمية والتعليم الخاص معاً، على تقديم أسوأ رواية عن التعليم العمومي الرسمي، وضعف مستواه، وساهمتا، بالتالي، في الطعن في كفاءته، وسمعته، وتشكيك الناس في جدوى إرسال أبنائهم إلى مؤسساته للتكوين فيها.

والحق أن أوضاع التعليم في بلادنا قابلة للمعالجة، والتصحيح، وصولاً إلى إعادة النهوض به، إن توفر لذلك إرادة وطنية صادقة؛ إرادة تدرك أن الاستثمار العام في التعليم وتعهده بالرعاية والصيانة (هي) أضمن وسيلة لبناء المستقبل، وأن أولى أولويات التفكير والتدبير في هذا الباب ينبغي أن تكون للتعليم، ولهدف بناء منظومة تعليمية متقدمة ومنتجة لتخريج الكفاءات العلمية التي تتوقف عليها عملية التنمية. وما أغنانا عن القول إن شق الطريق إلى تحصيل الهدف هذا يمر، حكماً، بإنجاز مهمة انتقالية استعجالية لا مندوحة عنها لتصحيح الأوضاع هي: إصلاح المنظومة التعليمية إصلاحاً شاملاً، وعميقاً.

والحق أن أي إصلاح حقيقي لمنظومة التعليم ينبغي أن يلحظ الحاجة إلى إعادة نظر شاملة في مستويات ثلاثة من برامج نظام التعليم: المضامين، المناهج، التأطير.

وتقاس نجاعة أي مضمون تقدمه مؤسسات التكوين بمدى ما فيه من قيمة علمية، وعقلانية؛ فهذه وحدها ترفع المدارك وتحررها من أصفاد الجهل، والفاقة المعرفية. وكم يزخر نظامنا التعليمي ببرامج يقوم مضمونها على فكر غير علمي، وغير عقلاني، يلقن للتلامذة، والطلاب، فيكرس في وعيهم قيماً في التفكير لا مستند لها من العقل، والعلم. من هنا يبدأ الإصلاح؛ من تشذيب برامج التعليم من هذه المضامين غير المنتجة، والاعتياض عنها بالأنجع.

ولما كانت المناهج أدوات عمل التلقين، ووسائطه البيداغوجية، كانت ثمار عملها تبعاً لنوعها ومستواها كمناهج. وحين تعتمد برامج التكوين على تقنيات الحفظ والاستظهار، وعلى التفكير بالأقوال، والتسليم بما قاله الأولون، لا تتولد من ذلك ملكة التفكير العقلي، والعلمي، بل ينشأ منها عقل نصي مردد، ومنصرف إلى الشروح، والجزئيات. وحين تقوم البرامج على مناهج الاستقراء والاستدلال الرياضي والمنطقي، والمقارنة والتحليل والتركيب والنقد، يتولد منها عقل علمي أكسيومي.

أما التأطير فمبناه على الكفاءة العلمية والبيداغوجية؛ وهذه قلما توفرت في أنظمة التعليم عندنا؛ لأن المؤطرين أنفسهم (معلمين وأساتذة) خرجوا من رحم النظام التعليمي عينه. والتعويل سيكون على مؤطرين قادمين من جوف نظام تعليمي بديل، غير أن الحاجات الانتقالية المستعجلة قد تفرض برنامجاً لإعادة تأهيل المؤطرين، بما يحسن من مستوى تكوينهم، ويرفع من درجة أدائهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"