نقاط مضيئة

03:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . مصطفى الفقي
وسط هذا الظلام الدامس الذي يغلِّف المنطقة العربية، والصقيع القارس الذي يسيطر على أجوائها دعونا في "مصر" نخرج من هذا المناخ المقلق لنبحث عن نقاط ضوء وسط الركام الذي نعيش فيه إذ إن لدينا مصادر أخرى للتفاؤل والإحساس بإمكانية التقدم إلى الأمام، وحتى نكتشف أن كل ما أصابنا من تراجع مرجعه سوء السياسات وخطايا إدارة الدولة فضلاً عن اللامبالاة التي تنتقص من مشاعر الولاء والانتماء برغم أنني أعترف أن تلك المشاعر قد تحركت إيجابياً بعد الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني ،2011 دعنا نرصد هنا بعض مظاهر التميز التي لم نعرف قيمتها ولم نفكر كثيراً فيها واستسلمنا فقط لمشاعر الإحباط وعوامل القلق وأسباب التشاؤم، فلنتأمل معاً النقاط التالية:
أولاً: تملك مصر أضخم تراث ثقافي على الأرض، فتحت كل حجر فيها أثر تاريخي . لا يتهمني أحد "بالشوفينية" إذا قلت إنها "أم الحضارات" و"بوتقة الثقافات" أخذت عنها كل حضارات البحر المتوسط من رومان وإغريق وفينيقيين وعرب، إنها مستودع التراث وحافظة دفتر أحوال البشرية منذ ميلادها، ليست هذه مجرد تعبيرات رنانة ولا كلمات عاطفية، إن لدينا مدينة واحدة هي "الأقصر" فيها ما يزيد على ربع الإرث الإنساني كله بشهادة المنظمات الثقافية الدولية، فيها ولد التوحيد ومنها خرج موسى "كليم الله" وعلى أرضها عبرت "العائلة المقدسة" وفي أنحائها ارتفعت مآذن الإسلام تأكيداً لاحترامها للديانات السابقة وإيماناً من شعبها بكلمة الله الأخيرة إلى الناس، إنها واسطة العقد وقلب العرب وروح إفريقيا وأكبر دولة في جنوب المتوسط "بحيرة الحضارات" التي أطلت عليه عبر التاريخ، وهي في العالم الإسلامي درة التراث الروحي وحافظة العقيدة والشريعة ومجمع مدارس الفقه الصحيح .
* ثانياً: تملك مصر الحديثة مؤسسات ثقافية وفكرية يحق لها أن تفاخر بها وأن تباهي، ففي العاصمة الثانية ثغر مصر البسّام تربض تلك التحفة المعمارية قلعة المعارف والعلوم وأعني بها "مكتبة الإسكندرية" التي جددت شباب التاريخ وذكّرت الدنيا بالمكتبة الأولى التي أضاءت المنطقة منذ عشرات القرون، وفي مصر أيضاً "دار الأوبرا" امتداداً لبنائها القديم في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي أن "مصر" كان لديها "دار أوبرا" في وقت مواز لوجودها لدى عدد قليل من الدول الأوروبية عندما أراد "خديوي التنوير" إسماعيل باشا أن يحيل البوابة الشمالية الشرقية "لإفريقيا" إلى "قطعة من أوروبا" بعد أن شيد جده محمد علي امبراطورية مترامية الأطراف تبدأ من سواحل شرق إفريقيا وأعالي النيل إلى حدود هضبة "الأناضول" وجزر البحر المتوسط فضلاً عن امتداد شرقي في الشام وغربي في التخوم الليبية لإقليم "برقة" .
ولاتزال "الأوبرا" المصرية مركز إشعاع فني مصري وعربي ودولي، إذ تستقدم الفرق الفنية الكبرى من "دور الأوبرا" النظيرة من قارات العالم المختلفة، إن دار الأوبرا المصرية التي تستضيف مهرجانات "الموسيقى" كل عام هي نقطة ضوء حاول نظام "الإخوان المسلمين" إطفاءها ولكنها ظلت صامدة، بل وتألقت وازدهرت وزاد الاهتمام بها والإقبال عليها، لأن الشعب المصري يدرك أهمية الأوبرا باعتبارها "أم الفنون"، كما أنها ترتبط في الذاكرة المصرية بحفر قناة السويس الأولى، ولعلنا نحتفل فيها بإتمام حفر قناة السويس الثانية! ثم إن لدينا فوق ذلك وقبله "المجمع العلمي المصري" الذي نالته يد الإثم والعدوان بحريقٍ متعمد في يوم مشؤوم عندما أراد بعض الخونة أن يحطموا "الثورة المصرية" ويتسللوا بين صفوفها، وهو مجمع له مكانته التاريخية والدولية، شيده نابليون بونابرت مركزاً لعلماء الحملة الذين رافقوه ثم أصبح بعد ذلك مركزاً لعلماء مصر الكبار من كافة فروع المعرفة، ولدينا أيضاً "مجمع اللغة العربية" أقدم المجامع في المنطقة والذي ندعو الله أن يخرجه من عزلته وأن ينفتح على التيارات الفكرية والمدارس اللغوية في العالم المعاصر وألا تحتكره عقيدة سياسية أو دينية، فاللغة العربية هوية للجميع دون تمييز أو إقصاء، ويبقى لدينا "المجلس الأعلى للثقافة" وعاءً راقياً للمفكرين والأدباء والفنانين والعلماء، إنها مصر المؤسسات الراقية ومراكز الإشعاع الباقية .
* ثالثاً: لدينا مؤسستان دينيتان فريدتان "الأزهر الشريف" و"الكنيسة الوطنية" وهما يمثلان مركز ثقل روحي للمسلمين والمسيحيين، فالأزهر الشريف هو حصن الدين الحنيف وحافظ لغة الضاد، كما أن الكنيسة الأرثوذكسية هي التعبير الروحي الممتد منذ دخول المسيحية إلى مصر ولا تخفى علينا حقيقة أخرى هي أن مصر كانت ملاذ "أهل البيت" منذ القرن الأول الهجري والذين تشير أضرحتهم وشواهد قبورهم إلى مكانة "مصر" الإسلامية، ومصر أيضاً هي التي ابتدعت الرهبنة المسيحية وعرفت "الأديرة" قبل غيرها لأنها دولة السماحة والسمو الروحي ومحبة أولياء الله من كل دين .
رابعاً: إن مصر النيل والأهرام والبحرين الأحمر والأبيض والشواطئ الرائعة والشمس الساطعة والسياحة المفتوحة على امتداد العام تشكل كلها نموذجاً فريداً لدولة ليس كمثلها دولة، لأنها تقع في نقطة التقاء بين الجغرافيا والتاريخ، بين المكان والزمان، كما رأها العبقري جمال حمدان! إن بلداً يملك كل هذه الخصائص يجب ألا يندهش حين يستهدفه الآخرون وأن تتوالى عليه الضغوط عبر تاريخه ولا تتوقف من جانب الطغاة والغزاة والبغاة .
* خامساً: إننا شعب الرموز الكبيرة في تاريخنا الوطني من طه حسين والعقاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وأم كلثوم وعبد الوهاب وصولاً إلى نجيب محفوظ وأحمد زويل وجمال عبد الناصر وأنور السادات، فهي مصر مجدي يعقوب وبطرس غالي وغيرهما من العلامات المضيئة في الداخل الخارج، إنها مصر عرابي عام ،1881 وسعد زغلول عام ،1919 وجمال عبد الناصر ،1952 وأنور السادات عام ،1973 والشعب المصري البطل عام ،2011 وقواته المسلحة الباسلة عام .2013 . إنها مصر التي لم تعرف التحزب ولا التعصب، ولم تعرف الأحقاد السوداء ولا المشاعر العدوانية، حاربت من أجل "الأرض" وفاوضت من أجل "السلام" وظلت تحمل الشعلة دوماً .
ألم أقل لكم إن لدينا نقاطاً مضيئة . . "تفاءلوا بالخير تجدوه" .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"