نكبة الهجرة إلى بلاد الغرب

02:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

لم تكنِ البلدان الغربيّة (الأوروبية خاصّة) متحسّسةً من المهاجرين العرب والمسلمين، في أيٍّ من مراحل تاريخ الهجرات العربيّة إليها (منذ نهايات القرن التاسع عشر)، كما هي اليوم؛ منذ مستهلّ هذا القرن. كانت قد بدأت تشديد الرقابة الأمنيّة والإلكترونيّة على الهجرة غير الشرعيّة منذ بدأت - في نهاية السبعينات - تفرض تأشيرات الدخول إلى أراضيها على رعايا البلدان التي نَعُدُّها في خانة المراكز المصدِّرة للمهاجرين، أو التي تشكِّل مَعْبَراً جغرافيّاً لهم إلى أوروبا، وأصاب البلاد العربيّة، المتاخمة لحوض المتوسّط خاصّةً، ضررٌ شديد من إجراءات تقييد التنقّل. وما إنِ انهارت الأنظمة الشيوعيّة في شرق أوروبا، بدءاً من عام 1989، حتّى زادت من تشديد الرقابة على حدودها مخافة تدفّق المهاجرين عليها هرباً من أوضاع الفوضى والأزمة الاقتصاديّة. ولم يُتِح إحداثُ منطقة «شينجين» وإقرار حقّ التنقّل فيها إمكانا لدخول مهاجرين جدد، بل زاد إحداثُها من التنسيق الأمنيّ ومرْكَزة المعلومات بين دول أوروبا على نحوٍ غيرِ مسبوق.
وإذا أخذنا في الحسبان أنّ الإجراءات الأمريكيّة لتنظيم الهجرة إليها أخذت بمبدأ الحصص السنويّة، التي لا تترك كبيرَ مجالٍ أمام استيعاب واسع لموجات المهاجرين، واختارت استقبال نوعٍ خاصّ من المهاجرين ذوي الكفاءات والتأهيل العلميّ؛ وإذا تذكّرنا أنّ بلدان الخليج العربيّ - وقد ظلّت لفترةِ ممتدّة مقصِد قسمٍ كبير من المهاجرين العرب - استوعبت ما يغطّي حاجتها من اليد العاملة والكفاءات العربيّة، وما عاد يسُعها استيعابُ المزيد؛ وإذا أضفنا إلى ذلك أنّ بعض بلدان اليُسْر الأخرى - مثل ليبيا سابقًا - التي كانت تملك، في ما مضى، استيعاب مئات آلاف المهاجرين المغاربة والتونسيّين والمصريّين وتوفير فرص العمل لهم، قد تعرّضت للتدمير والتقويض وتشتَّتَ المهاجرون إليها في الآفاق، أو عادوا إلى بلدانهم مكرَهين؛ وأخيرا إنِ اعتبرنا ما جرى في «الربيع العربي» من كوارث اجتماعيّة وإنسانيّة من تشريدٍ وتهجير لملايين اللاجئين خارج أوطانهم، تبيَّنَّا إلى أيّ حدٍّ باتتِ الهجرةُ أُفقاً منْسَدًّا أمام ملايين من المهمّشين والعاطلين والجائعين، بل والمتعلّمين الذين لم تفتح بلدانُهم واقتصاداتُها أبواب الرزق أمامهم.
ما الذي أوصلنا إلى هذه الحال؟ ما الذي جَعَل قسماً من البلاد العربيّة يصبح في عداد البلدان المصدّرة لملايين المهاجرين، بينما لا تَقْوى جحافِلُ المرشَّحين منهم للهجرة على ركوب سبيلها (للأسباب المبسوطة أعلاه)؟
الحقّ أنّ أسباب ذلك وعواملَه عدّة ومركّبة. لكنّ عامليْن منها هما، اليوم، الأظهر في كلّ تلك العوامل والأسباب.
أوّلهما الإخفاقُ الذريع الذي انتهت إليه تلك البلدان في السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتنمويّة لدولها، والذي أتى مظهرُه الصارخ يتمثّل في عجز اقتصاداتها عن استيعاب القوى العاملة والكفاءات العلميّة في سوق العمل. لقد حالت مديونيّاتُها العالية، وضَعف نسب النموّ فيها، ومحدوديّة برامج التنمية فيها، دون توفير بنيات الاستقبال الكافية لتلك القوى والكفاءات. ويكفي مثالاً لذلك أنّ مئات الآلاف من خرّيجي الجامعات وحَمَلة الشهادات العليا (الدكتوراه والماجيستير) هم اليوم فيها في جملة القوى العاطلة عن العمل، فما بالك بغيرهم من ملايين العاطلين من القادرين على العمل! ولا يتعلق الأمر في الإخفاق هذا ببلدان أخذت دولُها بنظامٍ اقتصاديّ بعينه («اشتراكي»، «ليبرالي»)، يمكن تحميله - بالتّبِعة - السبب في ما آلت إليه التنميةُ فيها، وإنّما هو إخفاق مسَّ دولاً آخذة بهذا النظام وبغيره. ويُستفاد من هذا أنّ العِلّة لم تكن في نوع النظام المعمول به دائما، بقدر ما كانت في سياسات فاسدة قادت إلى ما قادت إليه من انسداد.
وثانيهما السياسات السكانيّة الخرقاء التي نهجتْها تلك الدول، فقادت إلى تضخُّم ديموغرافيّ مَهُول؛ بحيث انهار التناسُب بين النموّ الاقتصاديّ والنموّ السكانيّ انهيارا دراماتيكيّا، على النحو الذي لم تعد فيه المواردُ الاقتصاديّة الشحيحة قادرةً على تلبية حاجات السكان الأساسيّة. والحقّ أنّ المسؤولين عن التمكين لهذا الانفجار السكانيّ الانتحاريّ كثر؛ من عائلاتٍ تُنْجِب من غير حساب أعدادا لا تَقْوى على إجابة مطالبها بإمكانياتها المحدودة، إلى حكوماتٍ لا تتدخّل للحدّ من هذا الشطط البيولوجيّ، فتبدو كما لو أنّها تبيحُه.
كان بعضُ حكومات عربِ اليوم يشجّع على الهجرة، في زمنٍ مضى، لأسباب اقتصاديّة: لأنّه لا يستطيع إشباع الحاجات وتوفير فرص العمل؛ ولأنّه يبغي منها موردا للعملة الصعبة من تحويلات العمّال المهاجرين. اليوم، ليس لمثل هذه الحكومات ما تستفيدُه من هجرةٍ باتت مستحيلة. لم يعد أمامها غير أن تواجه مشكلاتها الاجتماعيّة العميقة المؤجَّلة أو المسكوت عنها؛ المشكلات عينها التي أفضت إلى تضخّم جيش المرشحين للهجرة، وأفضت إلى انسداد أفق الهجرة أمامه، فوضَعتْهُ وجها لوجه مع حكومات بلاده.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"