نموذج آسيوي للتطرف الأسود

02:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

لا شك أنه ليس للتطرف دين، فالتطرف الأعمى هو بمنزلة عقيدة بشرية قائمة بذاتها، وينتمي أصحابها إلى مختلف الأديان والأعراق والنظريات. ومع أن معتنقي هذا اللون من الفكر يستخدمون الأديان السماوية لنشر أفكارهم وتسويغ ممارساتهم، فإن تاريخ البشرية يحفل بنماذج من علمانيين اختاروا هذا الطريق أمثال موسوليني وهتلر وستالين وبول بوت (كمبوديا). وسوف تظل البشرية تكافح التطرف الأسود أياً كان مصدره ولبوسه، لما يشكله من تهديد لحياة البشر، وتقويض للحضارة والمدنية، ومن تسميم العلاقات بين الثقافات والشعوب والأمم، ومحاولة إعادة البشرية القهقرى إلى قرون وسطى وعهود سحيقة.
ومن النماذج المتأخرة لهذه الظاهرة المقيتة ما أسهم به متطرفون ينتمون إلى البوذية في إلحاق إساءة كبيرة لأتباع هذه العقيدة التي لطالما عُرفت بالتسامح ونشدان الوئام والتجسير بين البشر على مختلف ألوانهم وأعراقهم وعقائدهم الروحية. ومن هؤلاء راهب يدعى آشين ويراثو في ميانمار، وهي الدولة الآسيوية التي شنت حملات تطهير عرقي وديني في السنوات القليلة الماضية ضد الأقلية المسلمة التي تعرف بالروهينجا. ومؤخراً اضطرت سلطات هذا البلد إلى توجيه الاتهامات له بإثارة الفتنة، وقد بات مهدداً بالاعتقال.
ومن المفارقات أن هذا البلد لا يحظى بمتابعة وسائل الإعلام، لكن اسمه أصبح ذائعاً على نطاق واسع بفضل حملات تنكيل لا مثيل لها ضد المسلمين فيه، وسبق للأمم المتحدة أن أرسلت مبعوثين إليه، حيث أقر هؤلاء بالتعديات الجسيمة التي ارتكبتها السلطات ضد الأقلية، كما أُصدِرت تقارير أممية تدين تلك الممارسات بأوضح العبارات وأشدها. ومع ذلك فإن وتيرة التطرف لم تنخفض لدى البعض، ومنهم الراهب المذكور الذي يصف أماكن العبادة للمسلمين بأنها «أوكار للعدو». ولا يتعفف عن إطلاق مختلف النعوت المقذعة بحق المسلمين لمجرد أنهم مسلمون، مع نعرة قومية بارزة وواضحة، تعزف على وتر الخشية من ضياع هوية البلد الذي يعتنق أغلبية سكانه العقيدة البوذية.
وعلى الرغم من أن الراهب المتطرف يُعرف على الملأ بمدى تطرفه، وعلى الرغم من أنه سبق أن حكم عليه بالسجن ل 25 عاماً، أمضى منها سبع سنوات فقط وراء القضبان، وخرج بعفو، إلا أنه ظل يتمتع بالحماية الرسمية. ومُنح الترخيص لحزب متطرف بقيادته في عام 2014 يدعى «الرابطة الوطنية لبورما»، إلا أن السلطات حلَّت هذا الحزب بعد ثلاث سنوات من تأسيسه، وذلك بعد أن تجاوز كل الحدود، ومؤخراً تقلصت مظلة الحماية له بعد أن أخذ يوجه شتائمه إلى شخصيات رسمية، منها سان سو كي، المعروفة بأنها المستشارة للدولة، وعلى الرغم من أن هيئات دولية عديدة منها منظمة أمنستي (العفو الدولية) دانت تلك السيدة لصمتها عن حملة التنكيل بحق 700 ألف مسلم، إلا أن ذلك لم «يشفع» لها لدى الراهب المتطرف الذي يوصف بأنه ابن لادن البوذي، وقد شملها بتعليقاته الجارحة، وهو ما جعله مطلوباً للقضاء في بلاده. وليس معلوماً إن كان سيُضبط ويواجه محاكمة عادلة له وفق المعايير الدولية. إذ إن سلطات ميانمار لطالما رأت فيه سنداً دعائياً واجتماعياً لحملتها غير المسبوقة ضد المسلمين الذين يشكلون نسبة تتراوح بين 5 و15 في المئة، وذلك حسب تقديرات متفاوتة، وذلك من مجموع نحو 53 مليوناً من سكان هذا البلد الذي يقع في جنوب شرق آسيا.
ولا ريب بعدئذٍ أن التطرف هنا وهناك في عالمنا يتغذى من بعضه بعضاً. إذ يجد بعض مسوغاته الواهية وذرائعه المتهافتة في تطرف جماعات أخرى. وبهذا تستمر الحلقة الجهنمية من العنف والعنف المضاد في غير مكان في العالم، كما تجد أصداء وارتدادات لها في أماكن أخرى، وكما شهدنا في الشهور الأخيرة في نيوزلندا وسيرلانكا وسواهما. أما في ميانمار فيراد للحملة ضد الأقلية المسلمة أن تصعد وتهبط بوتائر مختلفة، على الرغم من أن هذا البلد خسر الكثير من سمعته في السنوات الأخيرة، بل تعرض لبعض العقوبات، نتيجة السلوك الأسود ضد أقلية الروهينجا.
الواجب يقضي بمناوأة التطرف وثقافته المسمومة، ونشر قيم العدل والتسامح والتعايش بين البشر، وسنِّ القوانين التي تحمي هذه القيم، وتمنع التعديات الشائنة أياً كان مصدرها ولبوسها وضحاياها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"