نموذج تنموي جديد

03:50 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

لم تكن بلدانُنا العربيّة، إلى عهدٍ قريب (ثلاثة عقود قبل اليوم)، تعرف من نماذج التنمية غير النموذجيْن اللذيْن فرضا نفسيْهما على العالم، لفترةٍ امتدّت منذ نهاية الحرب العالميّة الأولى إلى نهاية الحرب الباردة؛ أعني النموذج الرأسماليّ الغربيّ والنموذج «الاشتراكيّ» الشرقيّ. ومع أنّ أنظمة الحكم العربيّة المتعاقبة لم تستند إلى طبقة برجوازيّة صناعيّة -كما في الرأسماليّات الغربيّة- ولا إلى طبقة عمّالية وفلاحيّة، كما في «الاشتراكيّة» السوفييتيّة والأورو - شرقيّة؛ ومع أنها لم تقُم على حكمٍ برلمانيّ تداوليّ (كما في الغرب) ولا على حكمٍ شيوعيّ (كما في الشرق «الاشتراكيّ»)، إلاّ أنّها توزّعت إلى مجموعتين مستلهمتين للنموذجين التنمويَّين؛ الواحدة في مقابل الأخرى. هكذا تصرّفت حكومات عربيّة وكأنّها امتداد للغرب في ديارنا، تقلِّد منوالَه الاقتصاديّ وتحذوه حذو النعل بالنعل، من دون أن يكون لمنوالها ذاك ما للنموذج المستعار من الشروط والموارد والإمكانات. في المقابل، انصرفت حكومات عربيّة أخرى إلى محاكاة النموذج التنمويّ «الاشتراكيّ»، محاكاة كاريكاتوريّة أحياناً، من دون أن تكون شروط تطبيق ذلك النموذج، ولا إمكاناته، متوافرة فيها.
عاشتِ البلاد العربيّة، حينها، خاصّةً بين خمسينات القرن العشرين وثمانيناته، في ظلّ حالة الاستقطاب الدوليّ بين العظمييْن والمعسكريْن. وهي حالة رتَّبت عليها تحالفاتُها فيها، مع المعسكريْن، تبعاتٍ فادحة وكابحة للتقدّم، ليس أقلّها أنّه كان على القوى العظمى أن تبرمج سياساتها الخارجيّة مع الحليف الصغير؛ لكنّ مفاعيل هذا الاستقطاب الدوليّ على صعيد منظومة دول الجنوب، ومنها الدول العربيّة، أتت باهظه الكلفة على تلك الدول وعلى استقلالها الاقتصاديّ -ناهيك عن استقلال القرار السياسيّ - فثبَتَ معها ما في دعاوَى عدم الانحياز من زعمٍ دعائيّ لا دليل عليه من سياساتها العامّة، بمقدار ما كشف عن هشاشة تكتُّل مجموعة ال77- الذي أريد له أن يجترح كتلةً اقتصاديّةً جديدةً ثالثة - وعن فقدان شعار «نظام اقتصاديّ عالميّ» أيَّ حجّيةٍ أو صدقيّة.
تَعَرَّض النموذجان التنمويّان، السائدان في الوطن العربي في ذلك الإبّان (وما زال أوّلُهما «الليبرالي» يستمر حتى اليوم) للحَدّ (الحجز) لسببٍ معلوم: أنّهما قلدا نموذجيْن قَطَعَا شوطاً من التطور عُدَّا، عند السواد الأعظم من النخب، مرجعيّن على الرغم من عدم التناسب بينهما وظروف المجتمعات العربيّة وحاجاتها. أمّا العقيدة الاقتصاديّة الجامعة بين النموذجيْن -على اختلافهما-، والتي ترسّخت في العقل الاقتصاديّ والسياسيّ العربيّ، فهي أنّ التنمية تعني تطوير قوى الإنتاج، ورفع معدّلات النموّ واستغلال موارد الطبيعة لتكوين القاعدة الاقتصاديّة - الماليّة للتنمية. وما كانت زيادة الإنتاج تعني، عندنا، إشباع الحاجات الأساسيّة، في المقام الأوّل، وإنّما تشجيع نموّ معدّلات الاستهلاك بوصفها الحلقة الضروريّة لتغذية الربح منظوراً إليه بوصفه الغاية الاقتصاديّة العليا!
وقليلون هُم أولئك الذين تنبّهوا، في ذلك الحين، من الأكاديميّين والاقتصاديّين والسياسيّين العرب، إلى أنّ معضلة تبعيّة الاقتصادات العربيّة لاقتصادات الميتروبولات الغربيّة و«الاشتراكيّة» إنّما تكمَن في تبعيّة النموذج التنمويّ السائد، وليس فقط، في تبعيّة علاقات الإنتاج وعلاقات التبادل؛ بل ولا حتى في تبعيّة القرار الاقتصاديّ العربيّ الرسميّ. ربما قيل: وما الذي كانت تستطيعه الدول العربيّة في ذلك الحين الذي لم يُعْرَف فيه من نماذج التنميّة سوى النموذجان المومأ إليهما؟
قد يكون التساؤل الاستدراكيّ هذا وجيهاً إنْ أخذنا في الحسبان أنّنا لم نكن وحدنا من المنبهرين بالنموذجيْن، المنصرفين إلى تقليدهما، وإنّما شَارَكَنَا خَطْأَتَنَا معظمُ دول العالم الثالث ودفعت، مثلنا، أثمان التقليد الرثّ. واليوم، ها إنّ نموذجاً للتنمية الوطنيّة جديدٍ يتخلَّق ويعظُم، داخل بلدان الجنوب، ويفرض -بنجاحاته الباهرة- سلطانَه ومرجعيته على باقي بلدان الجنوب، وبالتالي، يكسر قاعدة احتكار النموذج الغربيّ (الأمريكيّ - الأوروبيّ: بعد زوال النموذج السوفييتيّ) للتنمية ليفرض مكانته في خريطة التنميّة والبناء الاقتصاديّ في العالم. إنّه نموذج التنمية الجنوبيّة في بلدان مثل الصين والهند وكوريا الجنوبيّة والبرازيل وسواها من القوى الاقتصاديّة الصاعدة الجديدة. وهذه جميعها تُصنَّف، اليوم، ضمن القوى العشر الاقتصاديّة الكبرى في العالم، ومعظمُها كان يشبهنا، في البنيات والإمكانات، قبل ثلث قرن من الزمان.
هل لدى دولنا ومجتمعاتنا ونُخبنا الرغبة في الاستفادة الصحيحة من خبرة التنمية في تلك البلدان الجنوبيّة، من دون محاولة استنساخها؛ وهل تملك النخب السياسيّة والاقتصاديّة إرادة التحرّر من الارتهان للنموذج الغربيّ السائد، واشتقاق الدروس من تجربة الانتهاض الحضاري التي تخوض فيها، بنجاح، هذه الكوكبة المتقدّمة من بلدان الجنوب؟ تلك هي المسألة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"