هل انتهت «الماكرونية»؟

02:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

فاجأت حركة «السترات الصفراء» الجميع، من مراقبين وسياسيين، وفي طليعتهم الرئيس ماكرون الذي ما كاد يضع مشاريعه الإصلاحية موضع التنفيذ حتى اصطدم بحائط مسدود، فاضطر إلى سلوك سبيل التراجع عنها، ولو بشكل تدريجي، وغير معلن. خضوعه لمطالب الحراك الشعبي في موضوع زيادة الحد الأدنى للأجور، والعودة عن الضريبة على المحروقات، يصب في خانة هذا التراجع..
صحيح أن حركة «السترات الصفراء» بدأت تفقد زخمها، لكن قد يكون ذلك سببه الأعياد، ورغبتها في التقاط الأنفاس خلال هذه الفترة، استعداداً لتصعيد مقبل، كما عبر بعض القيّمين عليها. في هذه الأثناء، تتهاوى شعبية الرئيس ماكرون، ورئيس وزرائه إدوارد فيليب، إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة. وهذا وحده دليل ساطع على افتقاد برنامجه الإصلاحي للتأييد الشعبي (واستطلاعات الرأي تدعم هذا الرأي)، لاسيما وأن أصحاب الثروات تم إعفاؤهم من المساهمة في تكلفة هذه الإصلاحات بعد أن ألغت الحكومة الحالية الضرائب التصاعدية التي كانت فرضت عليهم في عهد الرئيس السابق هولاند. من هنا، يُنظَر إلى ماكرون على أنه «رئيس الأغنياء»، بل إن فرانسوا هولاند وصفه ب»رئيس الأغنياء جداً»، بحسب تعبيره في مقابلة متلفزة.
وبالتزامن مع الهدوء النسبي الذي شهده حراك «السترات الصفراء» وقّع مليون فرنسي على عريضة تطالب الرئيس ماكرون باحترام التزامات فرنسا البيئية التي تم التوقيع عليها في اتفاقية المناخ في باريس في ديسمبر/‏كانون الأول ٢٠١٥. والضرائب التي أججت الغضب الشعبي هي تلك التي فرضت على المحروقات، وقد ألغاها ماكرون تحت الضغط الشعبي، ليقع بين سندان «السترات الصفراء»، ومطرقة المطالبين بإعطاء الأولوية للبيئة.
وما بات يسمى بال»ماكرونية» يتخبط في حبائل مأزق كبير، وولاية ماكرون الأولى يبدو أنها شارفت على الانتهاء قبل أن تبدأ. فالرجل وصل إلى السلطة على خلفية وعود بإصلاح كل «السيستم»، وقدم نفسه بديلاً عن الأحزاب التقليدية، اليمينية منها، كما اليسارية، التي فشلت طيلة عقود طويلة في التصدي للمشاكل الاجتماعية، والاقتصادية المتفاقمة. هذه الأحزاب عاقبها الناخبون الفرنسيون بصرامة، وحزم، فالحزب الاشتراكي انتهى عملياً، والحزب الديجولي يصارع من أجل البقاء، في وقت يشهد صعوداً للحزب اليساري الراديكالي «فرنسا الأبية» بزعامة جان-لوك ميلانشون، واليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان.
لقد شكلت حركة «الجمهورية إلى الأمام» التي أسسها ماكرون عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ظاهرة لافتة في تاريخ فرنسا المعاصر. فهي وصلت إلى الرئاسة، واجتاحت المقاعد البرلمانية بعد عام واحد فقط على تأسيسها. ورئيسها ماكرون نفسه يفتقد إلى الخبرة السياسية بعد أن كان مصرفياً، ثم مستشاراً للرئيس هولاند، ووزيراً للاقتصاد لأشهر معدودة، استقال بعدها بطريقة محسوبة.
وترشحه للانتخابات الرئاسية في العام الماضي كان مفاجئاً، وقد تعرف إليه الناس خلال الحملة الانتخابية فقط، قبل أن يحقق فوزاً على مرشحي الأحزاب التقليدية الحاكمة في الدورة الأولى من الانتخابات. وفي الدورة الثانية كان فوزه الساحق محسوماً، لا لسبب إلا لأن منافسه كان زعيمة اليمين المتطرف لوبان التي يخشى الفرنسيون، في أغلبيتهم العظمى، وصولها إلى الإليزيه بسبب عنصريتها، وخطابها المتطرف.
واليوم، بعد نيف وعام على وصوله إلى السلطة، يعاني ماكرون ما عاناه كل أسلافه من تراجع للشعبية، وزوال للأوهام، واليأس من الإصلاح.
ولا يختلف ماكرون عن أسلافه لجهة تقديم الوعود الانتخابية، والفشل في تغيير الأوضاع، وتنفيذ الإصلاحات، والتصدي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، فالمشكلة ليست في الشخص، ولا الحزب، إنها ببساطة مشكلة الرأسمالية التي تأكل أبناءها، وتزيد من الشروخ الاجتماعية والتفاوتات الطبقية. إنها مشكلة تراجع قدرات فرنسا التنافسية في ظل العولمة التي تحد من قدرات الدول على حماية قطاعاتها الاقتصادية من منافسة أولئك الآتين لمزاحمتها بعيداً من خارج حدودها.
لن يسقط ماكرون تحت الضغوط، بل قد يضحي بالحكومة، ورئيسها فيليب، كسباً للوقت ليس إلا. وربما تكون «الماكرونية» قد دخلت في موت سريري وهي لا تزال طرية العود، كما فعلت الساركوزية في السابق. لكن الخوف أن يفتح هذا «الموت المبكر»، بعد أفول الأحزاب التقليدية الكبرى، الطريق واسعاً أمام صعود، مدوٍّ هو الآخر، للأحزاب الشعبوية، لاسيما اليمين المتطرف الذي يحرز تقدماً لافتاً في غير بلد، وقارة من العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"