هل تتراجع الرؤية الوطنية ؟

01:52 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. مصطفى الفقي

في يوم بلوغي السبعين عاماً تلقيت اتصالًا هاتفياً في الصباح الباكر وكانت المفاجأة هي أن المتحدث هو الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي بادرني قائلاً: (إن عمرك ليس سبعين عاماً فعندما أقرأ لك أو أستمع إليك أظنك في التسعين، وعندما أتابع تنقلاتك في المنتديات المختلفة أحسبك في الخمسين)، وقد انطوت عبارته تلك على مجاملة راقية من مفكر سياسي كبير احترمته دائماً بل ودفعت فاتورة لعلاقتي به، فعندما كنت أكتب بورتريه أسبوعي في إحدى الصحف حول الشخصيات المهمة في حياتي وكتبت عن الأستاذ هيكل كان القرار المباشر في اليوم التالي هو منعي من الكتابة في الأهرام لمدة تزيد على عام كامل قرار فوقي لا مبرر له وقد كتبت في مقالي عن الأستاذ عبارة هي ( لك العتبى حتى ترضى) ولم أقصد بالطبع أن هيكل نبيّ ولكنها عبارة استقرت في ذاكرتي من مقال كتبه الأديب الراحل عبدالرحمن الشرقاوي رداً على عتاب الإمام الأكبر الصوفي الدكتور عبد الحليم محمود وكان الشرقاوي وقتها رئيس مجلس إدارة (روزاليوسف)، وكان الأستاذ هيكل يعلم دائماً حتى أثناء عملي في مؤسسة الرئاسة أنني متهم بإعجابي الشديد به واحترامي الزائد لأفكاره ومشاركتي الكاملة لنتائج تحليلاته وكنت أستأذن الرئيس الأسبق مبارك من حين لآخر في الذهاب لزيارة الأستاذ ولم يمنعني مبارك من ذلك أبداً.
وذات يوم كنت أجلس معه في حديقة منزله في (برقاش) ومضى الأستاذ هيكل في تحليله للأوضاع العامة بما يحتوي انتقاداً ضمنياً لأسلوب الحكم في مصر وقتها وكنت أهز رأسي مؤيداً دون تعليق، وهنا ظهرت خفة ظل ذلك الكاتب الكبير عندما قال لي: (يا مصطفى إن التسجيلات لم تعد الآن بالصوت وحده ولكنها بالصوت والصورة أيضاً) فلقد كان الرجل يملك روحاً إنسانية عالية بها دفء المشاعر وود العلاقة مع الآخرين، وقد أرسل لي رسالة مكتوبة ذات يوم يقول لي فيها: (إنك تحملت بسببي بعض المضايقات فاقبل تقديري واعتذاري لذلك)، وعندما رحلت أمي ومات أبي كان في مقدمة المعزين، وعندما تزوجت ابنتاي كان أول الحاضرين. لقد كان الرجل مجاملاً للغاية حتى إنه عندما توفيت والدة زوجتي وكان خارج البلاد أرسل رسالة مكتوبة تفيض خلقاً طيباً وتوحي بحس إنساني شديد الرقي. وعندما أجرى معي الكاتب الصحفي محمود مسلم حديثاً خطراً قلت فيه بالنص: (إن هناك من يرى أن رئيس مصر القادم لابد أن يحظى بقبول أمريكي ومباركة «إسرائيلية») التقط الأستاذ هيكل تلك العبارة وقذفها في وجه النظام تأكيداً لمعارضته لمشروع التوريث حيث تفضح العبارة تلك المحاولة بوضوح، وقال الأستاذ هيكل يومها: (إن الفقي عمل في مطبخ السياسة وهو أعلم بما يدور فيه) وانزعج النظام وقتها من عبارته لأنه أدرك أن اتهام القاهرة بالانبطاح أمام الولايات المتحدة الأمريكية هو الرغبة في دعمها لمشروع التوريث وقد اتصلت بالأستاذ هيكل رحمه الله فاستقبلني في الهاتف ضاحكاً وقد كان بشوشاً بطبعه فقلت له: ( إنني كنت القنبلة اليدوية التي ألقيت بها على النظام) فقال لي: (إنك تعلم جيداً أنني أدرك دوافعك من وراء هذه العبارة ولذلك أردت تأكيدها لك من خلال ما قلته في رسالتي إلى الأستاذ مجدي الجلاد رئيس تحرير المصري اليوم حول ذلك الحديث الصحفي).
وذات يوم دعيت للاحتفال ببلوغ الكاتب الصحفي الأستاذ عادل حمودة سن الستين وحضر يومها عدد من رفاق مسيرته أتذكر منهم الأستاذ إبراهيم عيسى الذي ألقى الكلمة الرئيسية في ذلك الاحتفال وكنت أجلس إلى جانب الأستاذ هيكل الذي كان ضيف شرف اللقاء بدعوة ممن رتبوا لتلك المناسبة، وقد قال لي الأستاذ هيكل مداعباً ما هي المسافة التي يجب أن أحافظ عليها بين مقعدي ومقعدك حتى لا يصيبك ضرر ويكفي ما حدث لك بسببي مشيراً إلى منعي من الكتابة بعد مقالي عنه.
وقد رفض الأستاذ هيكل أن يتحدث يومها وأعطاني الميكروفون لأتحدث بدلًا منه وكان لقاء حميماً في العيد الستيني لأشهر أبناء مدرسة (روزاليوسف) الحديثة، وكان الأستاذ هيكل يتصل بي في فترات متفاوتة في شهور المصيف يدعوني للمرور عليه في قرية الرواد بالساحل الشمالي لرؤيته والحديث إليه، لقد كان الرجل دائماً هو أعلى القامات في الحياة الفكرية والثقافية والصحفية في كل مكان، وأتذكر أن السيد الأخضر الإبراهيمي كان سفيراً للجزائر في لندن ودعا إلى حفل عيد استقلال بلاده في اليوم التالي لوصول الأستاذ هيكل للعاصمة البريطانية، وفوجئ السفير الجزائري اللامع بعشرات الاتصالات من وزارة الخارجية البريطانية وكبار رجال الصحافة يطلبون حضور الحفل رغم أن معظمهم لم يكن مدعواً له وتقاطر الجميع إلى السفارة الجزائرية حول هيكل ذلك الصرح الفكري الكبير الذي قد يختلف معه الناس ولكنهم لا يختلفون عليه، لقد كان الرجل يمثل في حياتنا مصريين وعرباً واحة الأمان الفكري لأنه كان يملك الحقيقة ويجاهر بها دون مواربة أو التواء فقد كان يحمل في عقله اتجاه (البوصلة) الصحيح نحو المستقبل، ولعل الإطار النظري للعصر الناصري الذي أسهم فيه هيكل بالنصيب الأوفى هو دليل على ما نذهب إليه، لقد كان خطأ ذلك العصر في تطبيقاته وليس في معظم توجهاته، وقد أشرت إلى هذا المعنى عندما طلب مني فضيلة الدكتور عبدالله النجار رئيس مجلس إدارة مسجد سيدنا الحسين أن ألقي كلمة للحضور قبيل أداء الصلاة على روح الراحل العظيم وتبعني بعدها الروائي الكبير الأستاذ يوسف القعيد عضو مجلس النواب حين كان الجثمان محاطاً بأبنائه ورفاقه وتلاميذه والمئات من محبيه ومريديه، إن رحيل محمد حسنين هيكل هو علامة فارقة في مسار حياتنا السياسية فقد أعطاه الله عمراً طويلاً كرّسه كله عطاءً لأمته ووطنه وتميز بأسلوب فريد في الكتابة يجعل مقاله الصحفي مزيجاً من عمق الفكر وأدب الرواية، وما زلت أتذكر عندما ذهبت إليه مبعوثاً من الرئيس الأسبق مبارك أحمل إليه رسائل الرئيس المصري للرئيس العراقي صدام حسين بعد غزو الكويت فنظر إليها هيكل في ثوانٍ معدودة وسلمها لي في الحال فكأنما ألم بكل ما فيها في لحظات قليلة. وكان الملك الراحل الحسين بن طلال قد دعاه للقائه حتى تكتمل للصحفي العربي الأول جميع دوافع غزو الكويت وتبعة ذلك على المستقبل العربي كله.
والسؤال المطروح هل تتراجع الرؤية الوطنية بغياب تلك الشخصية الاستثنائية؟ إننا بالتأكيد نختلف عما كنا عليه في حياة (هيكل) فقد كان ضمير أمة، ورؤية وطن، ونصير شعب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"