هل يعود الجيش المصري الى الساحة السياسية؟

03:01 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ القرن التاسع عشر وتحديداً حركة أحمد عرابي ضد الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، احتل الجيش المصري موقعاً مميزاً في الضمير الشعبي المصري، وزاد هذا الموقع تألقاً مع ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 . ومنذ هذه الثورة توالى ضباط على رئاسة مصر مع حرص الجيش على البقاء قريباً من هموم الشعب ومن تطلعاته القومية العربية، بمعزل عن سياسات السادات ومبارك التي ابتعدت عن الإرث الناصري . ولكن في عهد الرئيس مبارك تحول عدد من الضباط الكبار إلى باشوات محظيين بفضل الامتيازات الاقتصادية التي وفرها لهم النظام درءاً لخطر الانقلاب عليه، بعد أن انقطع تماماً عن مجتمعه وأمته العربية والثوابت التي أرساها الرئيس جمال عبد الناصر في ضمائر المصريين . وبحسب الإحصاءات بات العسكريون يسيطرون على إمبراطورية مالية تبلغ نحو خمسة وأربعين في المئة من الاقتصاد المصري، وهم يهيمنون بالكامل تقريباً على قطاعات مثل إنتاج زيت الزيتون والمياه المعدنية وتجارة العقارات وصناعة الصيد وقطاع السياحة الاستراتيجي .

والجيش هو المؤسسة الأهم في مصر بفضل عديده (زهاء 834 ألف رجل إضافة إلى 974 ألف احتياطي)، ولأن المصريين ينظرون إليه كعائلة كبيرة يكنون لها الكثير من المودة والإجلال، وقد أسهمت الحروب المتكررة مع إسرائيل في تبوئه هذا الموقع . ويمثل الدخول إلى الأكاديمية العسكرية شرفاً كبيراً بالنسبة إلى المصريين وأحد أهم وسائل الترقي الاجتماعي .

ورغم الامتيازات التي تمتعوا بها خلال عهد مبارك، فإن العسكريين قرروا النأي بأنفسهم خلال الثورة الشعبية ضده فاكتسبوا تعاطف ومودة الثوار .كان تصرفهم ذكياً عندما رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين فتركوهم يخلصون البلاد من حكم مبارك وابنه جمال الذي كان الجيش يرفض توريثه الرئاسة . لقد كان الجيش في صراع خفي مع قوات الأمن والشرطة التي كانت تؤيد توريث جمال، فترك الجيش لها القيام بالأعمال المشينة (قمع المتظاهرين بوحشية )، ففقدت مصداقيتها وصارت عرضة لانتقام الثوار بعد انتصارهم . وفي 10 فبراير/شباط2011 تسلّم المجلس العسكري السلطة عندما اجتمع للمرة الأولى من دون مبارك الذي أعلن في اليوم التالي تنحيه عن الرئاسة، فآلت الأمور إلى المجلس الذي وعد بالإشراف على المرحلة الانتقالية بما فيها من انتخابات وصياغة دستور وغيرها .

بقي المجلس العسكري على رأس السلطة طوال أشهر ستة من دون أن يبرهن فعلاً بأنه ينوي التخلي عنها، بل أكثر من ذلك بينت أعماله عن حرص على حماية مصالحه والنظام القديم والسعي إلى البقاء في السلطة، فانقلب الثوار عليه وراحوا يطالبونه بالرحيل (الشعب يريد إسقاط المشير . . .) . وفي بداية 2012 قادت الانتخابات التشريعية الإخوان المسلمين والسلفيين إلى الأغلبية البرلمانية الساحقة قبل أن تحكم المحكمة الدستورية العليا، في 15 يونيو/حزيران ببطلان الانتخابات والمجلس المنبثق عنها . وفي الانتخابات الرئاسية حاول العسكريون إيصال مرشحهم اللواء أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، إلى الرئاسة قبل أن يذعنوا للاحتجاجات الشعبية فيُقرّوا بفوز أحد قادة الإخوان المسلمين محمد مرسي . وهكذا في 30 يونيو/حزيران أقسم اليمين الدستورية أول رئيس للجمهورية في مصر يأتي من صفوف المدنيين، بل الإسلاميين .

بعد كلام كثير عن صفقة سرية بين العسكر والإخوان، فاجأ الرئيس مرسي الجميع، في 21 أغسطس/آب ،2012 بإحالته المشير طنطاوي والفريق عنان إلى التقاعد . وقد خلف المشير في وزارة الدفاع الجنرال عبد الفتاح خليل السيسي العضو في المجلس العسكري والمدير السابق للاستخبارات العسكرية الذي تلقى علومه في الولايات المتحدة . وتساءل المراقبون عما إذا كان ذلك مجرد مناورة لاستبدال جنرالات موالين لواشنطن بآخرين موالين لها، أم أنه تعبير عن قطيعة بين الإخوان والعسكر؟

لا يزال الجيش قوياً في مصر ومصرّاً على امتيازاته المالية والعسكرية، لكن من اللافت هذا التشابه مع السابقة التركية للعام 1997 . فعلى غرار حزب العدالة والتنمية التركي قد يسعى الإخوان المصريون، عبر إرضاء الأمريكيين (المحافظة على كامب ديفيد والعلاقة مع إسرائيل وعلى دور وساطة مع حماس كما فعلوا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي)، وبالاستعانة بانتصاراتهم الانتخابية، إلى إعادة الجيش إلى ثكناته بصورة نهائية وربما وضع بعض ضباطه خلف القضبان إذا احتاج الأمر .

من المؤكد أن الإخوان الذين يتمتعون بالكثير من التنظيم والأدلجة، منذ العام ،1930 وبشعبية واضحة، يسعون إلى الإمساك بكل مفاصل السلطة التي وصلوا إليها بعد انتظار طويل . ويعلم ذلك معارضوهم من يساريين وعلمانيين وطلاب وأقباط ومثقفين ورجال أعمال وغيرهم . ومنذ الإعلان الدستوري ثم مشروع الدستور في نوفمبر الماضي، فإن الرئيس مرسي دخل في مواجهة مفتوحة مع معارضيه الذين نزلوا إلى الشارع حيث حصدت المواجهات عشرات القتلى وآلاف الجرحى، فضلاً عن آثارها السلبية على الاقتصاد والأمن والاستقرار . والجيش الذي فوضت إليه سلطة الاعتقال القضائية، لايزال يفضل النأي بنفسه خوفاً من سيناريو جزائري كان تسبب بحرب أهلية مؤلمة وطويلة بعد وقف مفاجئ للمسار الانتخابي في العام 1991 . ورغم الهدوء الظاهر السائد اليوم فإن الوضع قد يخرج مجدداً عن السيطرة، ما يؤدي إلى انحلال الدولة كما عبّر أحد كبار المسؤولين المصريين، وبالتالي فقد يجد الجيش نفسه مرغماً على العودة بقوة إلى الساحة بحجة الإنقاذ، فهل يفعل؟ وماذا ستكون التكلفة عندئذٍ؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"