هل ينجح ترامب في قلب المشهد الاستراتيجي؟

03:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

صرح مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية بأنه لا يعلم شيئاً عما دار في اجتماع القمة بين الرئيسين ترامب وبوتين، في هلسنكي. كما أن الكونجرس قد يعمد إلى سابقة وهي استجواب المترجمة التي حضرت الاجتماع كي يحصل منها على المعلومات المتعلقة به. ومن جهة أخرى، فقد أبدى حلفاء واشنطن في حلف الناتو امتعاضهم من عدم تشاور ترامب معهم قبل هذا الاجتماع، وجهلهم بما سوف يدور فيه، وخشيتهم من أن يفضي إلى صفقة على حسابهم.
وهكذا، ففي غياب معلومات رسمية عما دار في اجتماع القمة هذا، وما انبثق عنه من اتفاقات، لا يملك المراقبون سوى التكهنات والاعتماد على التصريحات، وبعض الأمور التي يمكن البناء عليها من خلال سلوك الرئيس ترامب السياسي، ومواقفه الدولية المعلنة منذ وصوله إلى البيت الأبيض، كذلك الأهداف التي يسعى بدوره إلى تحقيقها الزعيم الروسي على الساحة الدولية والتي باتت معروفة.
في قمة جماعة السبعة في كندا في الشهر المنصرم، كان ترامب واضحاً في ازدرائه للشركاء، وترك الاجتماع متوجهاً إلى سنغافورة ليعقد صفقة منفردة مع كيم جونج-اون، بعدها بأسبوعين تقريباً ذهب إلى قمة حلف الناتو في بروكسل حيث كرر مطالبة نظرائه بزيادة مساهماتهم المالية في ميزانيات الحلف، مستخدماً كعادته لغة فيها الكثير من التهديد المضمر، والقليل من الدبلوماسية.
وينتقد حلفاء ترامب موقفه من الناتو، ونظرته إليه، من الزاوية المالية والمحاسبية، وليس الاستراتيجية، ويتوجسون من أنه ربما يبحث عن ذريعة للانسحاب من الحلف الذي قال عنه في العام الماضي إن «الزمن عفا عليه»، متسائلاً عن الجدوى من استمراره، قبل أن يعود ليبدي القناعة بضرورة استمرار الحلف وتدعيمه، شريطة أن تتقاسم الدول الأخرى الأعباء المالية والعسكرية مع واشنطن. لكن لماذا رفع ترامب السقف هذه المرة مطالباً برفع مشاركة كل دولة في الحلف إلى أربعة، وليس فقط اثنين في المئة من ناتجها الإجمالي، كما هو الاتفاق؟
قال ترامب عن روسيا إنها ليست صديقاً، ولا عدواً، ولكن منافس. لكنه وصف الأوروبيين بالأعداء في تغريدة أخرى. وهدد بسحب الجنود الأمريكيين من ألمانيا التي يبدو أنه يكن عداءً حيال مستشارتها ميركل التي اتهمها بأنها أسيرة لموسكو، وتدفع لها المليارات فتملأ خزائنها بالمال، في مقابل الغاز والطاقة الروسيين، في حين أن واشنطن تؤمن لها الحماية من خطر روسي محتمل. وقال إن المباحثات مع الرئيس بوتين أفضل بكثير من تلك التي عقدها مع شركائه في حلف الناتو. ومع هؤلاء بدأ ترامب حرباً تجارية قد تتفاقم وتهدد كل التحالف الغربي القائم.
لا ريب في أن المستفيد الأكبر من كل ذلك هو الرئيس بوتين الذي نصب فخاً لنظيره الأمريكي في هلسنكي، على ما يعتقد كثيرون في الولايات المتحدة، ومن الحزب الجمهوري نفسه، حيث وصف بعضهم ترامب ب»الخائن»، وبعضهم الآخر ب»الضعيف» بعد لقائه ببوتين.
لقد انتقد ترامب أجهزة الاستخبارات الأمريكية، والتحقيقات في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية الأخيرة أمام بوتين، وقدم له تنازلات من دون أن يدري أحد في مقابل ماذا. بالطبع يعلم الجميع بأن المباحثات بين الرجلين لم تتعلق بضم روسيا للقرم، ولا بسياستها الأوكرانية، فهي خطوط حمراء بالنسبة لموسكو، بقدر ما تمحورت حول الملفين الإيراني والسوري، وربما «صفقة القرن». والهم الذي يسيطر على سياسات ترامب الشرق-أوسطية هو ضمان أمن وتفوق الدولة العبرية، وهو هدف لا يتعارض مع سياسة بوتين الذي يقيم أفضل العلاقات مع بنيامين نتنياهو .
لكن ترامب الذي عاد وتراجع في واشنطن عن الكثير من تغريداته التي أطلقها في هلسنكي، وتسببت له بالانتقادات ، وصف القمة بالناجحة، وسيكون لها امتداد في واشنطن التي دعي بوتين لزيارتها في الخريف المقبل .
هذا السعي الواضح للتقارب مع موسكو وعقد الصفقات الاستراتيجية معها، معطوفاً على ابتعاد واضح عن الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة، وصولاً إلى مساع غير مخفية لتفكيك الاتحاد الأوروبي نفسه (البريكست، والتشجيع عليه). وربما طي صفحة حلف الناتو الذي تتزعمه واشنطن وتعول عليه في الكثير من خططها الاستراتيجية الدولية، يكشف عن رغبة واضحة في تغيير كل المشهد الاستراتيجي الدولي القائم، والتأسيس لقواعد لعبة دولية جديدة. فهل ينجح ترامب في ذلك؟
الانتقادات العنيفة التي تعرض لها ترامب في واشنطن، واضطراره للتراجع عن بعض مواقفه تحت ضغط هذه الانتقادات، تعني بأنه لا يملك القرار المنفرد بإحداث مثل هذا التغيير الجذري، وبهذه السرعة. لكن الرجل أثبت أنه قادر على المواجهة والمضي، ولو منفرداً، بتحقيق رؤاه وقناعاته. ودعوته بوتين إلى لقاء قمة ثان في واشنطن في الخريف القادم دليل على أنه ماض قدماً في تحقيق مثل هذا التغيير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"