هوامش حول تجديد الخطاب الديني

03:45 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

منذ أثار الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطاب له بعد توليه سلطة الحكم في البلاد مسألة «تجديد الخطاب الديني»، توالت الكتابات وتعددت الآراء حول هذه القضية المعقدة التي تمثل قنطرة بين الدين والحياة، بين الجانب الروحي للدين وسلوكيات المسلمين. وفي ظني أن القضية ربما تكون أوسع من ذلك بكثير، إذ لن يتحقق لنا بلوغ تلك الغاية، وتحقيق ذلك الهدف دون المضي في سلسلة طويلة من الإجراءات التنظيمية والأفكار الإصلاحية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يقتضي منا مناقشة واسعة تنطلق من معطيات التعليم الديني في مصر وتطوراته وتأثيراته على الحياة والمجتمع، دعنا نتأمل النقاط التالية:
} أولاً: إن التعليم الديني في مصر تضخم حجماً، ولكنه انخفض نوعاً، فلم تعد كفاءة الداعية ولا إمكاناته العلمية والثقافية قادرة على مواجهة ظروف العصر ومشكلاته، ولقد أفزعني أن جامعة الأزهر وحدها تضم أكثر من 600 ألف طالب، وأن لديها أكثر من 75 كلية في أنحاء الجمهورية، والملاحظ هنا أنه رغم هذا العدد الضخم فإن القدرة على مواكبة روح العصر وأفكاره وتحدياته والتصدي للغة التشدد والغلو والتعصب وما وراءها من عنف وإرهاب تبدو غائبة إلى حد كبير، لأن التعليم الديني لا زال تقليدياً رغم كل محاولات التحديث وجهود الأئمة الكبار، وعلى رأسهم الإمام الطيب شيخ الأزهر.
} ثانياً: دعنا نناقش في تجرد وموضوعية السلم الهرمي للتعليم الأزهري، فالطالب يلتحق به حتى الثانوية الأزهرية ثم يتجه المتفوقون والمتميزون إلى الكليات العلمية من طب وهندسة وصيدلة وعلوم وغيرها، ويبقى أولئك الذين لم يحصلوا على مجموع يؤهلهم لتلك الكليات، فيتجهون إلى التعليم الديني وكأن كليات الأزهر الشريف الأصلية أصبحت تستقبل في الأغلب بقايا من الحاصلين على الثانوية الأزهرية، وبذلك انخفضت تلقائياً المستويات العلمية لتلك الكليات التقليدية التي كانت ثلاث كليات، هي: أصول الدين والشريعة واللغة العربية، منذ تنظيم عام 1928في المشيخة الأولى للإمام الراحل محمد مصطفى المراغي، التي أضيفت إليها بعض الكليات الجديدة، مثل: الدراسات والدعوة واللغات والترجمة، وذلك لأننا في جامعة الأزهر نستهين بالغرض الأساسي لهذه الجامعة، وهو التعليم الديني ونجعله دون أن نشعر في الدرجة الثانية، بينما هو الهدف الأسمى والغاية التي لا يجب أن تعلو عليها غاية أخرى، ثم نتباكى بعد ذلك على انخفاض مستوى معظم الخريجين، وفقر قدراتهم الفكرية وانخفاض درجة إلمامهم بالمعارف العامة والعلوم الحديثة، بينما كانت كليات الأزهر التقليدية، هي درة التعليم الإسلامي في العالم كله، ونتذكر أسماء مثل الأئمة: الشعراوي والغزالي وسيد سابق ومحمد البهي ومحمود زقزوق وأحمد الطيب وعلي جمعة، وأيضاً الشيخ القرضاوي وغيرهم عشرات من الكواكب الساطعة في عالم الدعوة الإسلامية والنجوم الزاهرة في علوم الشريعة والفقه واللغة.
} ثالثاً: والحال كذلك فإنني أكثر إصراراً من أي وقت مضى على ما طرحته في العقدين الأخيرين من مطالبة ملحة بتقسيم جامعة الأزهر بين الكليات الدينية، وهي جوهر الدراسة في الأزهر الشريف على امتداد العالم الإسلامي كله، التي يقابلها الكليات الإكليريكية ومعاهد الدراسات اللاهوتية في العالم المسيحي، بحيث يتاح لنا إعطاء الكليات الدينية كل الاهتمام والرعاية تحت مسمى جامعة الأزهر، ويصبح الخريجون قادرين على مواجهة أمراض العصر التي تتستر بالدين، ولا تعرف صحيح الإسلام الحنيف ومبادئه النبيلة وروحه السامية، وحتى نخرج من أزمة التعليم الديني التي دخلنا فيها منذ سنوات، ويؤسفني أن أقول إنني عندما أرتاد بعض المساجد أجد أن الأئمة يخطئون أخطاء في خطبة الجمعة، خصوصاً في الجانب اللغوي الذي يتسم لديهم بالضعف ناهيك عن الأخطاء النحوية فحدث عنها ولا حرج.. فأين هؤلاء من علمائنا الكبار وأئمتنا العظام؟! أما الكليات العلمية فإنني أقترح فصلها تحت مسمى الجامعة الإسلامية، وتقبل طلاب الثانوية العامة ويكون للأزهر الشريف الإشراف الديني على مقرر واحد فيها يدرسه المتقدمون إليها من - مسلمين ومسيحيين - فالتعليم كالماء والهواء كما قال عبقري الأزهر عميد الأدب العربي د.طه حسين منذ عشرات السنين، وبينما تكون الدراسة في جامعة الأزهر بكلياتها الدينية العريقة قاصرة على الحاصلين على الثانوية الأزهرية، فإن القبول في الجامعة الإسلامية يكون متاحاً للمسلمين والأقباط، شريطة قبولهم بدراسة مقرر مستمر حول التاريخ الإسلامي وتراثه في خدمة العلم والإنسانية، ويكون لجامعة الأزهر الإشراف على ذلك المقرر الذي يمضي بالتوازي مع العلوم الحديثة في كلياتها المتخصصة.
} رابعاً: إن الزعيم الراحل عبد الناصر عندما أصدر قانون الأزهر بشكله الحالي كان يسعى لوجود الداعية الإسلامي المتخصص في علوم الدنيا حتى يتمكن من مواجهة الحملات التبشيرية التي غزت إفريقيا في القرن الأخير، ولكن ذلك الهدف لم يتحقق، وأثبتت التجارب أن العنف والإرهاب أشد خطراً على الإسلام من دخول الوثنيين في ديانة سماوية أخرى، فالإرهاب داء العصر الذي ينخر كالسوس في جسد الإسلام الحنيف، ويشوه صورته ويعبث بمكانته وهو ما يستدعي بالضرورة ظهور الداعية الأزهري المتمكن من الأفكار النقلية والحجج العقلية الذي يتحدث في ذات الوقت بلغة أجنبية.
} خامساً: إذا كنا نتحدث عن مبادرة رئيس الجمهورية نحو تحرير الخطاب الديني وإطلاقه لخدمة الدين والمجتمع معاً، ولدرء المخاطر عن العالم الإسلامي وشعوبه، فإن الخطوة التي اقترحناها منذ سنوات تظل بداية مطلوبة للدخول في مضمون الخطاب الديني وجوهره وفحواه فلا تجديد للخطاب الديني بغير داعية متمكن ومستنير ومؤثر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"