هيكل في عيده التسعين

04:45 صباحا
قراءة 4 دقائق

قد يكون الاستاذ محمد حسنين هيكل، آخر هؤلاء الكتاب والصحفيين الذين لا يتكررون، هؤلاء الذين يمكثون على القمة بروح شابة حتى وهم في سن الشيخوخة، ويتركون بصمات يصعب محوها، ويمتلكون القدرة والإرادة على الجهر بمواقفهم عندما تأزف اللحظة الحرجة، خصوصاً عندما يكونون شهوداً، وذوي أدوار لها صلة بالتاريخ .

قبل نحو عقد أو يزيد، استأذن الناس بالانصراف والتقاعد، وقبل ذلك اعتذر عن زيارة الخليج والجزيرة العربية لأسبابه ومبرراته، لكنه في نهاية النهار، عاد إلى الكلمة، وهي نصف التاريخ، عاد مترعاً برحيق الصحفي الجسور، وبالحنين إلى البحث والتأمل والتحليل والشهادة على العصر .

على مدى خمسة عقود، تابعت قراءة وتأملاً كل ما كتبه الاستاذ هيكل، وحظيت بلقائه أول مرة في دار الأهرام في صيف عام ،1973 وبرفقة الصديق الراحل تريم عمران، المعين سفيراً للإمارات في القاهرة، ومرة أخرى في العام نفسه، برفقة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، وفي هذه الزيارة الأخيرة نظم الاستاذ هيكل جلسة حوار للشيخ الدكتور سلطان مع نخبة مميزة من أدباء وفناني مصر، من أمثال توفيق الحكيم، وصلاح طاهر ومحفوظ وغيرهم، ممن جذبهم هيكل إلى مؤسسة الأهرام ووفر لهم مكاتب وبيئة ابداعية وفكرية فيها . وفي مرة ثالثة، كنت في وداعه في مطار القاهرة في نهاية عام ،1977 قبل توجهه إلى أبوظبي لإلقاء محاضرة فيها، حول ما الذي جرى في مصر؟ وكيف جرى؟ ولماذا جرى؟ في إشارة إلى زيارة الرئيس السادات إلى القدس المحتلة .

لم يُعرف الاستاذ هيكل أنه كان يوماً تابعاً لسلطة أو لسلطان، وظل وما زال حامل قلم، لا نديماً لبلاط أو منشداً لنظام . وفي كتبه ومقالاته تكثر المعلومات والوقائع، وتغلب أحياناً على الرأي والتحليل، وهنا تكمن الصورة المميزة له كصحفي .

فجذر الحرية للكاتب، هو ضمان تدفق المعلومات، ومعرفة الحقائق، ولا قيمة لرأي كاتب، إذا كانت قاعدته المعلوماتية ضحلة، ومعرفته بما يجري حوله فقيرة وخلفياته المعرفية هشة وهامشية .

من ناحية أخرى، فإن الاستاذ هيكل كان صارماً في توثيقه، حريصاً على صدقية غير مسبوقة كشاهد على الأحداث، وبخاصة الأحداث المفصلية في حياة مصر، وفي تاريخ المنطقة العربية، وحروبها وسلامها الراقص وخفايا السياسة فيها .

لم يقع في محظور الحكمة بأثر رجعي كما يفعل غيره من الكتاب والصحفيين، بل كان ناقداً لما يجري، مؤتمناً لقارئه يبوح له بكل ما يعرفه، معتبراً أن فقدان ذاكرة الأمة، هو كارثة تودي بالتاريخ والمستقبل، وظل صاحب رؤية ومعلومات بالغة الجسارة والصدقية في أزمنة داجنة .

تحدث بصراحة عن عبقرية المكان - مصر، حينما يشع سحرها ويشيع سرها، وتصبح الملهم والنموذج . وتحدث أيضاً عنها، حينما تتعطل إرادتها أو يصغر دورها أو تنكمش وتنزوي .

ورغم أن كثيرين من الكتاب والصحفيين اقتربوا من صناع القرار، إلاَّ أن هذا القرب تحول إلى قيد على حريتهم في الكتابة والتأريخ والرأي .

أما الاستاذ هيكل فقد كان خارج هذا النوع من الأشخاص، اقترب من صانع القرار في الخمسينات والستينات، والربع الأول من السبعينات، وظل في القمة يكتب على الورق، ولا يعتمد على الذاكرة . وتظل التفاصيل لديه حية ونابضة، ومسنودة بالوثائق والمعلومات وبعيدة عن الانشاء والجمل البارعة المصفوفة الفارغة من المعنى والرؤية .

من غير الاستاذ هيكل، ما كان لجيلي، ولا الأجيال الحالية أن تعرف شيئاً عن ملفات سياسية أساسية، كملفات حرب ،1948 والسويس وحربي 1967 و1973 ومبادرات السلام وأسرارها ووثائقها، وسنوات الغليان وكواليس مؤتمرات قمم عربية، وتفاصيل لوحات كئيبة في حياة هذه الأمة، وخلفيات

وصلات زعماء ونجوم لمعت، ثم غاب ضياؤها بسرعة، ولفها الضباب .

لا أعرف كاتباً صحفياً عربياً، أثارت كتاباته نقاشاً على مستوى كوني، مثل الاستاذ هيكل، وظل مرجعاً ومزاراً لكبار الساسة، في سنين شبابه وشيخوخته في آن .

لا أحد في عالمنا العربي، احتفظ بأوراقه ووثائقه التي تحكي وقائع مهمة في تاريخ مصر والعرب، خارج بلده، لحفظها وصونها، مثلما فعل الاستاذ هيكل .

يقول في أحد كتبه إنه غطَّى عينيه بكفيه، وأجهش في البكاء، حينما سمع إذاعة القاهرة، وهي تتحدث عن ترتيبات زيارة السادات للقدس المحتلة، وكيف أن سرباً من مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي، سوف تخرج للقاء طائرة السادات .

تُرى ماذا قال الاستاذ هيكل، وهل أجهش في البكاء والحزن، حينما قام شيطان بحرق وتدمير منزله ومكتبته ووثائق نادرة ثمينة في قرية برقاش .

هل اسطوانات الغاز التي فُجرت في كتبه وبيته، وأشعلت ناراً، شكلت نوعاً من الاحتفاء ببلوغه التسعين، كشمعة ميلاد، نفخ الاستاذ عليها فأطفأ نيرانها . فمصر عنده في امتحان صعب وعسير في هذه الأيام .

الاستاذ هيكل . . شخصية مميزة غير عادية، واصلت الحركة والتأثير صعوداً وباستمرار، وشاهد على تاريخ مصر لأكثر من ستين عاماً، وظاهرة تخطت حدود بلدها، ونتاجها لا يضيع في زوايا النسيان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"