ولاية العهد في تاريخ الإمارات

23:38 مساء
قراءة 5 دقائق
في كل المجتمعات التي تسير أمورها طبقاً للأعراف والتقاليد المتوارثة، بغض النظر عن تركيبتها السياسية، لابد للقيادة السياسية أن يوجد لها قائد يكون من سراة القوم، أي من النخبة المشهود لها بالتزام حمل الأمانة والسير بالأمة إلى بر الأمان، ويقوم في الوقت نفسه بأمر الأمة ومرجعية لها في الأعمال المسيرة للحياة اليومية للناس، والتي تتوزع وتناط بالمؤسسات التي أولدتها الإدارة العصرية الحديثة.وقديماً قالت العرب في القيادة:لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهمولا سراة إذا جهالهم سادواوالبيت لا يبتنى إلا له عمدولا عماد إذا لم ترس أوتادتهدأ الأمور بأهل الرأي ما صلحتفإن تولوا فبالأشرار تنقادإذا تولى سراة القوم أمرهمنما على ذاك أمر القوم فازدادواوكما يقول الشاعر العربي المحنك (1).. فإن الناس لابد لها من قيادة تكون من نخبتها المعول عليها، لأن البيوت كما يشير الشاعر لا تقام إلا على أسس وأعمدة، وبأهل الرأي والحصافة تسير الأمور إلى الهداية والرشاد.وإذا لم يأت هؤلاء الذين هم من أهل الرشادة ليمسكوا زمام الأمور، فإن أمور الناس تؤول إلى الخراب ويقودها الأشرار، ولا تزدهر الحياة وتنمو إلا على يد خيار القوم وأهل الرشاد فيهم.. والقصيدة طويلة، ولكن مجمل معناها أن الشاعر يتوسم فيمن يتسلم القيادة أن يكون قائداً خيّراً يدعو إلى الخير ويختار الخيّرين ليعاونوه في تحقيق أهدافه ومراميه الخيّرة.وبالرجوع إلى تاريخ الإمارات نجد أن المؤسسات الإدارية المعاونة للحاكم في كل إمارة من إمارات الدولة، هي حديثة العهد، وقد لا يتجاوز عمر وجودها الستين عاماً، أي منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وشبيهة بمثل هذه المؤسسات الحديثة، منصب ولاية العهد الذي استحدث أيضا نتيجة للتطورات الادارية التي وضعت لها اللبنات الأولى منذ الزمن المشار إليه، ونتيجة لمبدأ تثبيت الاستقرار السياسي وتجنب المنازعات والاختلافات حول منصب الحاكم ومن يكون الرجل الثاني في الامارة بعد الحاكم ومن سيخلفه بعد رحيله.وكانت هذه المنازعات تثار كثيراً بين الأسر الحاكمة، على حكم الإمارة في غياب الحاكم بشكل يلحق الضرر بالناس وبالبلاد، ويعيق أي تقدم للبلد نحو التغيير في النمطية الادارية، وكان الانجليز الذين كان لهم الحول والطول لا يتدخلون تدخلاً مباشراً لتأييد فئة ضد أخرى، طالما كانت مصالحهم الخاصة لا تتعرض للمضايقة، وكانت دبي إحدى الامارات التي حصلت فيها الاختلافات والنزاعات من هذا القبيل خلال المائة سنة الأولى لحكم آل مكتوم من بطي بن سهيل الذي تولى حكم دبي في عام ،1832 وكان عقلاء القوم يرون أن عدم وجود استخلاف واضح من قبل الحاكم لمن يخلفه سبب أساسي لاندلاع النزاع وإثارة الخلاف، وكان على رأس هؤلاء العقلاء والنابهين الحاكم الصالح والرشيد الشيخ سعيد بن مكتوم آل حشر الذي تولى الحكم في دبي عام 1912 إثر وفاة ابن عمه الشيخ بطي بن سهيل (1906 - 1912). وجاء هذا الانتباه والقرار الحكيم من قبل هذا الحاكم الذي لم تشهد المنطقة رجلاً في صلاحه وتقواه، بتسمية ابنه الشيخ راشد بن سعيد خلفاً له، وألقى إليه في حياته، رحمه الله، زمام أمور البلاد وجعله معاوناً له منذ العام ،1939 عقب إخماد الفتن المثارة واستعادة الشرعية التي عمل لها المغفور له الشيخ راشد، ووقوفه موقفاً حازماً للقضاء على الفتنة التي كادت أن تجر دبي إلى الخراب بعد العمار.. (2)وكما قلنا فإنه منذ مستهل العام 1940 وما يليه حتى الولاية الرسمية عام ،1958 كان الشيخ راشد، رحمه الله، عرف رسمياً أنه ولي للعهد لإمارة دبي غير منازع، وأقر بهذه الولاية أهالي دبي والامارات الأخرى بجانب الانجليز الذين كانوا يسيّرون الأمور الخارجية لهذه المنطقة، وبذلك أصبحت دبي أول إمارة في منطقة ساحل عُمان تبتدع هذا المنصب السياسي الذي لم يكن يشار إليه فيما سبق، ووضعت بذلك اللبنات الأولى للتطوير الإداري الذي شهدته دبي قبل انقضاء النصف الأول من القرن الماضي، ومن دبي انتشر ذلك إلى باقي الامارات الأخرى، وأصبح انتقال الحكم من الحاكم ومن سيخلفه أمراً طبيعياً وفي أضيق الحدود النزاعية أو الاختلافية.وإذا عدنا إلى التاريخ العربي الإسلامي العام، فإننا نجد، كما يعرف الجميع، أن أول من عهد بولاية العهد في حياته هو الخليفة معاوية بن أبي سفيان الأموي، وسمى ابنه يزيد بن معاوية خليفة للمسلمين من بعده وسط خلافات شديدة أدت إلى أمور لم يحمدها التاريخ الاسلامي، ولكن الكثيرين من أهل الرأي استصوبوا هذا الإجراء، واعتبروا الاستخلاف أو ولاية العهد خطوة سليمة وجاءت لدرء الفتنة وبغية إيجاد الاستقرار في المجتمع الإسلامي الجديد، واستحسن هؤلاء قرار الخليفة معاوية بالاستخلاف واعتبروه قرينة باستخلاف الخليفة أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وعلى رأس من استحسن واستصوب ذلك، كبار المسلمين من أهل الحل والعقد وأصحاب المدارس الفقهية الأربع، الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وأتباع هؤلاء حتى يومنا هذا، بالرغم من تضارب الآراء واختلاف وجهات النظر في هذا الأمر السياسي المهم، فإن جمهور المسلمين يرون سلامة هذه النظرية؛ نظرية استخلاف معاوية لابنه يزيد بغض النظر عن الاختلاف حول شخصية يزيد نفسها، هذه النظرية ثبتت صلاحيتها لأنها جنبت المجتمع الاسلامي الاضطرابات، وكان عهد معاوية بن أبي سفيان عهداً اتسم بالاستقرار وسماه المؤرخون المسلمون، عام الجماعة.ونعود إلى القرار الذي اتخذه الشيخ محمد بن راشد وإسناد منصب ولاية العهد لابنه الشيخ حمدان بن محمد يوم الجمعة 24 محرم عام 1429 هجرية الموافق الأول من شهر فبراير/ شباط عام ،2008 بوصفه بالقرار الحكيم والسليم والذي كانت دبي والإمارات الأخرى تنتظره بفارغ الصبر، لأن هذا القرار هو من الأسس التي لابد من وجودها ليكون مسار التنمية مساراً يمشي في الدرب السليم والصحيح، ويؤدي إلى طمأنة النفوس واستقرار الأمور استقراراً متيناً، والتخطيط للمستقبل من الحكومة ولمصلحة الأفراد والمجتمع بصفة عامة، تخطيطاً تنموياً مطرداً، وقد أثبتت جدواها التجارب الإدارية التي مر بها الناس في هذه المنطقة منذ منتصف القرن الماضي، ولم تحدث خلافات حول من يقود السلطة بعد الحاكم القائم، وكل الخلافات الأخرى كانت غير متعلقة بهذا الموضوع مباشرة.ومن المؤكد أن الشيخ محمد بن راشد في سعيه الدؤوب نحو التنمية، قد أخذ بعين الاعتبار أن التنمية لا تتحقق ولا تؤتي أكلها الطيب إلا بطمأنة النفوس بأن استقرار الأوضاع هو العامل المهم في التنمية، وقد رأى الشيخ محمد، بثاقب رأي وبصر، أن الفراغ الدستوري الذي قد ينجم عن عدم التخطيط السياسي للغد، قد يضع العراقيل والمطبات أمام سير التنمية. وهنا قرر الشيخ محمد وفي وقت مناسب جداً توزيع المهام في اليوم هذا وفي الغد الآتي، وترتيب الأمور للخلف الصالح عن طريق السلف الصالح باجتهاد فيه الكثير من بعد النظر والقناعة بأن ما يعلمه هو لمصلحة الوطن ومنفعة المواطنين وأن ولاية العهد والاستخلاف في الحكم، دعامة قوية للاستقرار. (1) الأفوه الأودي/ توفي عام 570م(2) انظر ما كتبه الكاتب عن الشيخة الجليلة أم راشد حصة بنت المر في حلقات كشاكيل رمضان الماضي، في جريدة الخليج
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"