“إسرائيل” والاغتيالات السياسية

05:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
ارتبط تاريخ "إسرائيل" منذ تأسيس كيانها المصطنع بالعمليات الإجرامية التي كانت تخطط لها العصابات الصهيونية من أجل التصفية الجسدية لخصومها، بصرف النظر عن جنسياتهم وعن مواقع المسؤولية السياسية أو الأمنية التي كانوا يضطلعون بها، ويلاحظ المتتبع لقائمة وأسلوب هذه الاغتيالات أنها اعتمدت على استراتيجية موحّدة ترمي إلى تحقيق أهداف مباشرة في معظمها، ولم يكن يهم مخططيها ومنفذيها - في الأغلب - الأثمان السياسية التي يمكنها أن تنجر عن القيام بهذه الاغتيالات . وبالتالي فإنه يصعب تقديم وصف دقيق لهذه الاغتيالات التي تتجاوز كل ما هو متعارف عليه في تاريخ الجريمة السياسية بالنسبة إلى مصالح الاستخبارات في كل دول العالم، لأن "إسرائيل" لا تهتم بدراسة ردود أفعال الخصوم بل تتجاهلها بكل بساطة، كما أنها لا تحرص على أرواح الأشخاص العاديين الذين يمكن أن يتواجدوا في مكان الاغتيال، لأن اهتمامها ينصب بشكل حصري على إصابة الهدف والقضاء عليه بشكل نهائي، وتتميز أساليب الاغتيال بالبشاعة والقسوة المفرطة التي هي ديدن المجموعات الإرهابية الأكثر تطرفاً ودمويةً .
عدد الاغتيالات التي نفذتها الاستخبارات الصهيونية لا تعدّ ولا تحصى، ولكن من المفيد في اعتقادنا التذكير في هذه العجالة بأبرزها، من أجل توضيح وتحديد العوامل المشتركة التي تميز مجموع هذه الاغتيالات والتي تسم من ثمة السياسة "الإسرائيلية" بميسمها؛ وعليه فإن اغتيال القائد خليل الوزير أبو جهاد في تونس سنة ،1988 حتى إن لم يكن هو الأول فإنه كان الأكثر وقاحة وعنجهية، لأنه تم على بعد آلاف الكيلومترات من الأراضي الفلسطينية المحتلة ومسّ بشكل واضح هيبة دولة مستقلة وذات سيادة، وفضلاً عن ذلك فهي ليست من دول الطوق العربي التي تجمعها حدود مشتركة مع هذا الكيان، حيث أفرغ عناصر القوات الخاصة الصهيونية على جسد الشهيد أبو جهاد 70 رصاصة، إمعاناً منهم في التنكيل بجسده . وأبانت هذه الحادثة أن قادة "تل أبيب" لا يملكون من تقاليد الدولة إلا الاسم، وأنهم لا يشعرون بالحرج عندما يخترقون القانون الدولي لأنهم كانوا ولا يزالون يتمتعون بالحصانة والدعم الذي توفره لهم الإدارة الأمريكية، بل إن عملية الاغتيال في حد ذاتها تمت، وفقاً لما تبيّن لاحقاً، بدعم لوجستي من الأسطول الأمريكي المتواجد في البحر الأبيض المتوسط . كما أن محمود المبحوح أحد قيادات كتائب عز الدين القسام اغتيل في دبي من خلال استعمال عملاء المخابرات "الإسرائيلية" جوازات سفر مزورة تابعة لدول غربية كبرى تدعي على المستوى الإعلامي والرسمي أنها تدافع عن القانون الدولي وعن مواثيق حقوق الإنسان .
وقامت "إسرائيل" في سياق متصل باغتيال عماد فايز مغنية القائد العسكري للمقاومة اللبنانية أثناء وجوده في سوريا سنة ،2008 أي في مرحلة ما قبل اندلاع الصراع في سوريا الذي جعل هذه الدولة العربية المحورية منكشفة أمنياً، الأمر الذي سمح للاستخبارات "الإسرائيلية"، في بداية هذه السنة ،2015 باغتيال نجل عماد مغنية جهاد، رفقة كوادر عسكرية تابعة للحرس الثوري الإيراني .
أما بالنسبة للقيادات الفلسطينية التي تم اغتيالها بدم بارد على الأراضي الفلسطينية فيمكننا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، اغتيال الشيخ المُقعد أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس بواسطة مروحية "إسرائيلية" من نوع أباتشي في شهر مارس/ آذار ،2004 لتقوم بعد ذلك يد الغدر الصهيونية باغتيال خليفته في رئاسة حركة حماس عبد العزيز الرنتيسي في شهر إبريل/ نيسان من السنة نفسها؛ ليؤكد بذلك قادة "تل أبيب" أن الموساد "الإسرائيلي" أصبح يتربع بلا منازع على "عرش" الاغتيالات السياسية في العالم منذ نهاية الحرب الكونية الثانية .
ويمكن القول بناءً على ما تقدم، إن الفارق الجوهري ما بين الاغتيالات السياسية التي تلجأ إليها الدول والكيانات الوطنية انطلاقاً مما يسمى منطق الدولة ومتطلبات الأمن القومي من جهة، والاغتيالات التي ينفذها "الموساد" من جهة أخرى، هو أن "إسرائيل" لا تملك منطق دولة لأنها ببساطة ليست دولة وفقاً للمعايير والأسس والمقومات التي تأسست عليها الدول، ولكنها تمتلك هواجس أمنية تفرضها عقيدة عنصرية تنظر إلى الآخر على أنه عدو حتى إن اقتضت الظروف لأن يجري التحالف معه بشكل مرحلي، ومن ثمة فلم يكن من الغريب أن تلجأ "إسرائيل" إلى الاحتيال على المنظومات الأمنية والدفاعية لكل الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، ومحصلة كل ذلك هو أن "إسرائيل" هي الدولة الأولى في العالم التي تستغل جاليتها اليهودية من أجل التجسس على الولايات المتحدة الأمريكية . وفضلاً عن ذلك فإن غايات المشروع الصهيوني التي تتم ترجمتها من خلال عمليات الاغتيالات، لا تبرر فقط الوسيلة أو الوسائل غير المشروعة وغير الأخلاقية أو غير الإنسانية المستعملة، بل هي تتعالى عليها ولا تسعى إلى تبريرها بل تطلب من الضحية أن تعترف بأنها تمثل تهديداً للوجود اليهودي في العالم برمته، لأن الدول الأخرى عندما تمارس الاغتيال، اضطراراً لا اختياراً، فإنها تعترف صراحة أو ضمنياً، بأن هناك أسباباً استثنائية قاهرة دفعتها إلى ممارسة ذلك الفعل الذي ربما لم تكن ممارسات أو أفعال الضحية تستوجبه، من منطلق قناعتها - من الناحية المبدئية على الأقل - أن العقاب يمثل في نهاية المطاف ممارسة يفترض أن يخضع للتشريعات والقوانين وليس للتصفيات الجسدية؛ بينما تصرّح وتعترف "إسرائيل" بعد كل اغتيال تنفذه بكل وقاحة، بأن الضحية ليست ضحية وفقاً لقاموس الدلالات الصهيونية، بل هي "جلاد" و"مجرم" بالفطرة نال ما "يستحقه"، ولو كان الأمر يتطلب منها أن تعيد صياغة مشهد الجريمة لفعلت ذلك بكل اطمئنان وببرودة أعصاب .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"