“الفيل” في الحجرة

04:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . مصطفى الفقي
قال لي وزير خارجية السودان الأسبق مصطفى عثمان منذ عدة سنوات في معرض الحديث عن الضغوط التي واجهت مصر عبر تاريخها: (إن مصر تبدو دائماً "كالفيل" الذي يراد حبسه في حجرة) فليس مسموحاً لها بالانطلاق والتحليق وليس مطلوباً لها السقوط أو الانهيار أيضاً، ففي الحالتين هناك من يشعرون بالضرر ويواجهون الموقفين بكل ضراوة، لقد تذكرت مقولة ذلك الوزير الصديق، وأنا أراقب المشهد المصري الحالي داخلياً وخارجياً وأرى محاولات التضييق على "الفيل المصري" الذي عبر كل مراحل التاريخ في صبر وعناد لأن لديه "ذاكرة الفيل" الذي لا ينسى من يسدي له معروفاً ولا من يسيء إليه أيضاً، ولقد استدعت ملاحظة الوزير السوداني أمامي مجموعة من المواقف لعل أهمها ما يلي:
أولاً: إن مصر دولة مركزية محورية في المنطقة تملك دوراً تاريخياً ممتداً عبر العصور ولذلك فإن مجالها الحيوي هو المنطقة العربية والقارة الإفريقية بل وربما الدائرة الإسلامية أيضاً، وقد سعت مصر دائماً إلى تعزيز دورها والتمكين لسياستها الخارجية في تلك الدوائر، ولكن الأمر لم يكن سهلاً في كل الأوقات فتعرضت مصر لضغوط دائمة من قوى تدرك قيمة مصر ومكانتها ولكنها لا تريد لها الانتشار الإقليمي أو التأثير السياسي في المنطقة، وإذا كان المثل البريطاني يقول (إذا عطست مصر فإن "الشرق الأوسط" سيصاب "بالإنفلونزا") فإن ذلك يعكس فهم الآخرين للدور المصري الحيوي والمكانة التاريخية لها عبر العصور، ولعل ذلك يفسر إلى حد كبير المحاولات المتكررة لتطويق السياسة المصرية وضرب الدور الإقليمي لها، فالمطلوب أن تظل مصر دائماً محكومة بإطار معين لا تخرج عليه .
ثانياً: لقد أثبتت الظروف التاريخية صعوبة حصار مصر اقتصادياً وسياسياً لأنها بلد ممتد الحدود برياً وبحرياً، فضلاً عن قدرة المصريين على التكيف مع الأوضاع وابتلاع الأزمات والمرور فوق الانتكاسات، لأن في "جينات" ذلك الشعب قدرة فائقة على المقاومة خصوصاً السلبية منها والتعامل طويل المدى مع عنصر الزمن والصبر الطويل على "القهر السياسي" حيناً و"الفقر الاقتصادي" أحياناً أخرى من دون أن تتغير الشخصية الملهمة للشعب وتلك واحدة من أسرار عبقريته .
ثالثاً: إنني أسلم بالنجاحات الملموسة للسياسة الخارجية المصرية بعد 3 يوليو/تموز 2013 وقدرتها على اختراق مجالات جديدة وفتح آفاق للحركة أمامها، ولعلي أشير هنا تحديداً إلى المجالات الثلاثة "الإفريقية" و"الآسيوية" و"الأوروبية"، فلا شك أن زيارة الرئيس المصري للصين كانت نجاحاً يحسب له، خصوصاً إذا أضفنا إليها استقباله لرئيس وزراء اليابان بالقاهرة في الأسبوع نفسه، كما أن العلاقات المصرية الإفريقية قد بدأت تزداد شفافية ووضوحاً عن ذي قبل، كذلك فإن الزيارة الرئاسية الناجحة لكل من فرنسا وإيطاليا ثم لقاء الرئيس المصري بالمستشارة الألمانية هي كلها نقاط إيجابية يضاف إليها التحرك الدؤوب لوزير الخارجية المصري سامح شكري في كافة المجالات الإقليمية والدولية، وتلك كلها تفتح ثغرات وقنوات تتحرّك من خلالها الدبلوماسية المصرية في الخارج .
رابعاً: إن لنا تصوراً يدعو "الفيل المصري" الحبيس تاريخياً في حجرته الضيقة إلى أن يسعى في مجالات جديدة للحركة على المستويات كافة، فأنا أرى مثلاً أن الهند دولة مهمة لنا في الجانب التنموي بحكم التشابه في العقبات، وأدعو إلى فتح حوار ولو غير معلن مع طهران لأنه لا يمكن تجاهل قوى إقليمية بدعوى عدم وجود تمثيل دبلوماسي على مستوى السفراء، لذلك أسعدتني زيارة وزير الخارجية المصري للعراق في ظروفها الحالية الصعبة، ولعلي أدعو الآن صراحة إلى ضرورة الاشتباك الدبلوماسي مع كافة مشكلات المنطقة وأزماتها، وقد يقول قائل (إن فينا داخلياً ما يكفينا) وتلك نظرة قاصرة لأن توظيف الدور الخارجي لخدمة الدولة له عائده على المدى الطويل وربما القصير أيضاً، وبهذه المناسبة فإن دولتي إريتريا وأوغندا مهمتان في الضغط الدبلوماسي من أجل حل مشكلة "سد النهضة" مع إثيوبيا، كما أن دور الجزائر وتونس محوري في مواجهة الأوضاع في ليبيا، وتبقى علاقتنا بجنوب السودان وتشاد أيضاً مؤشر توازن لعلاقتنا الأزلية بدولة الشمال السوداني، لذلك فإنني أتوقع دائماً أن تسعى الدبلوماسية المصرية إلى التوجه نحو ميادين مهمة للحركة النشطة التي يحتاج إليها "الفيل المصري" للخروج من محبسه التاريخي .
خامساً: إن التطورات الأخيرة في الجزيرة العربية والمشرق العربي ذات تأثير قوي في السياسية الخارجية المصرية فما يجري في اليمن يؤثر فينا وما يحدث في العراق وسوريا ينعكس علينا، فمصر ليست دولة صغيرة في المنطقة، إنها أكبر دولة على الساحل الجنوبي للمتوسط وبوابة الشمال الشرقي لإفريقيا وقلب عالمها العربي، فلا يمكن التعامل معها من دون الوضع في الاعتبار أهمية أدوارها التاريخية ووقفاتها المشهودة دفاعاً عن "الأمن القومي" العربي في مراحله الصعبة ومواجهاته الحرجة .
. . إن الملاحظات السالفة تؤكد أمامنا أن الدور المصري معطاة تاريخية أكثر منه صناعة مرحلية لذلك فإنه من العبث الحديث عن توقف ذلك الدور أو تجميده بدعوى وجود مشكلات داخلية أو ضغوط اقتصادية، إذ إن ممارسة الدور ليست ترفاً لا نقدر عليه ولكنها ضرورة يجب أن نسعى إليها، فالدبلوماسية الناجحة هي التي تسعى إلى فتح الأبواب والنوافذ وشق قنوات التواصل ومسارات الحوار خصوصاً مع من نختلف معهم في الرأي أو نشعر لديهم بشيء من تعارض المصالح، كما أن مصر جزء لا يتجزأ من منظومة الدفاع العربي المشترك وهي شريك فاعل في مكونات الأمن القومي للمنطقة لذلك فإن الحوار الذكي والقوي والرشيد أمر لازم في هذه المرحلة التي يحارب فيها الجيش المصري ببسالة في سيناء ويدفع أفواج الشهداء على أرضها بين الحين والآخر . . لقد آن الأوان "للفيل" أن يتحرك وأن يسعى خارج الإطار التقليدي إذا كنا نفكّر في دولة مصرية عصرية حديثة .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"