5 سنوات قلبت وجه الشرق الأوسط

01:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

في مثل هذه الأيام من العام ٢٠١١ دخل العالم العربي في نفق طويل لا ندري كيف ومتى يخرج منه، وفي أي حال سيكون عند الخروج. بدأت الأمور على شكل هبّات وانتفاضات، أو لنقل «ثورات»، شعبية هدفها إسقاط النظام القائم على الجور والتعسف ولكن من دون أن تقدم بديلاً واضحاً له، وهذا دليل من الأدلة على عفوية هذه الانتفاضات التي لم يكن مخططاً لها على الرغم مما تقوله أطروحات المؤامرة التي اعتاد عليها العقل العربي.
خلافاً للعادة وللتوقعات نجحت هذه «الثورات» الشعبية في إسقاط أنظمة حديدية متجذرة وراسخة، ما شكل مفاجأة للمراقبين المقتنعين بأن العالم العربي يبقى عصياً على التغير والتحول الديمقراطي الذي عرفته أوروبا وأمريكا اللاتينية، وحتى قسم من إفريقيا جنوبي الصحراء التي يضرب بها المثل في التخلف والتكلس.
لكن كما تكشف الزلازل طبيعة التربة، كشفت هذه التحولات طبيعة المجتمعات العربية التي تسودها التفرقة وتغيب عنها الرؤية الجامعة الواضحة، خلافاً للمجتمعات الأوروبية الشرقية التي كانت تعرف تماماً ماذا تريد بعد زوال النظام الشيوعي. في العالم العربي انفتح الصراع على مصراعيه بين المشاريع المختلفة، من علمانية ودينية وداخل كل منها، فضاعت البوصلة وساد التخبط، ما فتح المجال أمام التدخلات الأجنبية التي راحت تصب الزيت على نيران الفتنة. صحيح أن التحول الديمقراطي نجح وصار نموذجاً في تونس، إلا أن الإرهاب يترصده، كما في مصر، حيث تم العبور إلى الدولة المدنية عبر انتفاضة شعبية وانتخابات ودستور. وفي ما خلا الحالتين التونسية والمصرية فإن دول «الربيع العربي» الأخرى دخلت في أتون حروب أهلية لا أفق واضحاً لها، فما الذي حدث حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟
بعيداً عن أطروحة المؤامرة، وهي دائمة الحضور في العلاقات الدولية، فقد تضافرت أسباب داخلية مع تدخلات خارجية لتحيل التحول الديمقراطي العربي إلى أزمات إقليمية، بل دولية تتخطى أبعادها الداخلية.
في دول «الربيع العربي» أدى الاستبداد والقمع خلال سنين طويلة إلى غياب معارضة داخلية تحمل تصوراً واضحاً جامعاً. توزعت المعارضة بين القبور والسجون والمنافي.
في ليبيا، لم يكن ممكناً إسقاط النظام من دون تدخل خارجي تمكن من الاستحواذ على شرعية أمّنها له القراران ١٩٧٠ و١٩٧٥ الصادران عن مجلس الأمن الدولي. وهكذا تم إسقاط القذافي بتدخل عسكري خارجي، ولكن من دون حاضنة داخلية قادرة على قيادة التحول بطريقة سلمية ودستورية بعد انتهاء التدخل العسكري الخارجي الذي قامت به دول تسعى لمصالحها بطبيعة الحال. وهكذا انكشف الوضع الليبي على اجتماع سياسي مفكك تعصف به الاختلافات بين العلمانية والدين في غياب جيش قادر على حماية البلد، وقوات أمن كفيلة بحماية استقراره في انتظار التسوية السياسية والدستورية.
ودخلت المنظمات الإرهابية من باب الفوضى والانقسامات العشائرية والدينية والمناطقية والسياسية وغيرها. واستحال البلد ساحة لحرب يختلط فيها الديني بالسياسي، والداخلي بالخارجي من دون أفق واضح لحل مرتقب.
في اليمن أخرجت المبادرة الخليجية علي عبد الله صالح من الحكم، وليس من البلاد التي بقي يمتلك فيها نفوذاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً استخدمه عندما سنحت الفرصة، فتحالف مع الحوثيين ضد نائبه السابق عبد ربه منصور هادي وكاد ينجح لولا «عاصفة الحزم» التي فاجأت المراقبين والسياسيين.
في سوريا عمد الرئيس السوري بشار الأسد إلى استخدام القوة المسلحة في وجه المعارضين السلميين له فاستحال التحول الديمقراطي حرباً أهلية، اتسعت إلى إقليمية بسبب تدخل حلفاء الأسد الإقليميين لحمايته. في المقابل لم توفر الدول المناهضة للنظام السوري جهداً لدعم المعارضين له والذين تحولوا في جلهم إلى منظمات إسلامية توزعت بين الاعتدال وأبشع أنواع الوحشية والتطرف. وجاء التدخل العسكري الروسي ليعطي الأزمة السورية بعداً دولياً واسعاً أخرجها نهائياً من أيدي أطرافها الداخليين.
لقد وفرت البيئة الداخلية، وتحديداً الاجتماع السياسي المفكك، في هذه الدول ، الظروف المواتية لكل أنواع التدخلات الخارجية، فأنتجت ما انتجته من انسداد في الآفاق وتعقيدات وحروب ومؤامرات ومشاريع لإعادة النظر في خرائط المنطقة. وتتفرج «إسرائيل» على ما يجري باغتباط شديد من دون أن توفر فرصة المشاركة فيه من وراء الكواليس، وأحياناً بطرق مباشرة. في تونس ومصر حدثت الأمور بسرعة لم تتح الوقت للتدخلات الخارجية، فالجيش والدولة العميقة كانا على أهبة الجهوزية لمرافقة التحول ومنعه من الاستحالة صداماً أهلياً تنفذ منه التدخلات الخارجية. في ليبيا لم يكن ثمة جيش أو دولة عميقة بل فراغ، وفي اليمن انقلب الجيش الموالي لصالح على العملية السياسية، وفي سوريا وقف الجيش إلى جانب النظام فانقسم على نفسه ودخل طرفاً في حرب أهلية استدعت تدخلات خارجية.
خمس سنوات غيرت وجه العالم انطلاقاً من الشرق الأوسط الذي أضحى منطقة يخرج منها الإرهاب ليضرب في أمريكا وأوروبا وإفريقيا وغيرها. روسيا عادت قوة عظمى، والولايات المتحدة تراجعت هيبتها، وأوروبا انقسمت على نفسها، وإيران زاد نفوذها، واختلط الديني بالسياسي والاقتصادي والإثني والثقافي والحضاري في حروب أهلية وإقليمية ودولية أحالت الربيع الديمقراطي إلى شتاء عاصف مدمر، تتضافر البيئتان الداخلية العربية، والخارجية الإقليمية والدولية في إنتاجه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"