5 يونيو 1967

04:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

لا أزال أذكر ذلك اليوم ولن أنساه أبداً، لقد كان يوماً بدأ بالإثارة ثم انتقل بنا إلى القلق، وما إن أقبل المساء إلا وقد بدأت الشكوك الحزينة تسيطر على الكثيرين منا، خصوصاً أولئك الذين وصلتهم معلومات أجنبية تتحدث عن هول القتال وتحطيم الطيران المصري مع إشارة إلى بوادر الهزيمة، لقد كنت قد تجاوزت الثانية والعشرين، وكنت عضواً في منظمة الشباب مسؤولًا عن برامج التثقيف في العاصمة، وكنت قد تخرجت قبلها بعام واحد في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، ضمن جيل كامل يمتلئ حماسة للمستقبل، ويرتبط ارتباطاً شديداً بالزعيم عبد الناصر، ويرى أن طلوع الفجر وشيك وأن مهرجان النهار سيضيئ أركان مصر التي تصورنا وقتها أنها تمتلك أقوى قوة ضاربة في الشرق، ولكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، وواجه العرب محنة كبرى تمثلت في نكسة يونيو عام 1967، ووقف عبد الناصر صامداً لا ينحني ولا يتراجع؛ بل انخرط في عملية صعبة لإعادة بناء القوات المسلحة ومواجهة الموقف الذي وجد العرب أنفسهم فيه بين عشية وضحاها؛ إذ لم يكن سيناريو الهزيمة وارداً على الإطلاق؛ بل لقد دخلت الجيوش العربية - خصوصاً الجيش المصري - إلى أتون حرب الأيام الستة التي فرض فيها «الإسرائيليون» التوقيت الذي يريدون، ولم يكن لدينا سيناريو آخر وهو الأسوأ؛ ذلك الذي يرتبط باحتمالات هزيمة؛ إذ لم تكن واردة على الإطلاق في العقل العربي، وتلك في ظني واحدة من أكبر أخطائنا؛ ذلك أننا لا نؤمن إلا بما يرضينا ولو لحظياً ويكون مادة للاستهلاك ولو داخلياً، فلم نضع احتمالات أخرى أمام قواتنا المسلحة التي ظلمت ظلماً بيناً؛ لأنها لم تحارب ولكنها خرجت في مظاهرة حاشدة انتهت بالعودة تحت شمس سيناء الملتهبة في شهر يونيو، منذ أكثر من واحد وخمسين عاماً.
ولقد تغيرت ملامح الحياة بعد تلك الهزيمة على امتداد الخريطة العربية كلها، ولا زالت آثار ذلك تتعقبنا حتى الآن.
ولعل إعلان الإدارة الأمريكية مؤخراً اعترافها بالقدس عاصمة ل«إسرائيل» ونقل سفارتها إليها هو آخر التداعيات المنظورة لنكسة 1967، ولقد اعترف عبد الناصر بمسؤوليته عما جرى في خطاب حزين لا زال هو الأشهر في تاريخنا الحديث، كما أنه تصرف كالأسد الجريح واختار القتال أسلوباً لمواجهة الهزيمة، وأعلن أن «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، كما قام بإجراءات مطلوبة أهمها سحب قواته من اليمن وإسقاط سطوة جهاز المخابرات العامة حينذاك، بسبب انحرافه عن مهامه الأصلية.
إن 5 يونيو 1967 ليس يوماً منشئاً في تاريخنا، ولكنه حدث كاشف يؤكد أهمية الديمقراطية الحقيقية، وضرورة الإيمان المطلق بإرادة الشعب وإسقاط الفواصل والحواجز بين السلطة والجماهير. ولقد أبرزت السنوات من 1967 حتى 1973 المعدن الحقيقي للشعب المصري الجسور، الذي أغرقت قواته المسلحة المدمرة إيلات وصمد الشعب الباسل في مواجهة أحداث «الزيتية» و«بحر البقر»، بل ودخل معركة «رأس العش»، بعد أقل من أسبوعين من بداية النكسة، وهو أيضاً الشعب الذي أقام عماله حائط الصواريخ للتصدي لعربدة «إسرائيل» الجوية والعبث بسماء مصر.
وعندما رحل عبد الناصر تحمل أنور السادات المسؤولية ومضى على الطريق الباسل بحرب الاستنزاف، وصولاً إلى حرب العبور العظيم التي قهرت أكبر مانع مائي في التاريخ الحديث، وحققت نصر أكتوبر المجيد، وهنا يعنّ لي أن أطرح ملاحظتين:
أولاً: إن الهزائم هي نكبات ونكسات ومحن يمكن أن تزيد الشعوب صلابة، وأن تجعلها أكثر قوة وصموداً، ولا شك أن نكسة يونيو تركت بصمة حزينة على وجه مصر، ولكنها أيضاً أكسبتها شعوراً بالصحوة جعلها أكثر واقعية وبُعداً عن الشعارات واقتراباً من الحقيقة، ولقد عرفت أمم الأرض وشعوب الدنيا الهزائم والنكسات كما عرفت السقوط والانتصارات، وفي كل الأحوال تختلف الأمور بعدها عما كانت قبلها.
ثانياً: إن حرب يونيو عام 1967، سمحت بتطوير شامل للقوات المسلحة المصرية على نحو وصل بها لأن يكون جيشها واحداً من ضمن العشرة الأوائل بين جيوش العالم، فالجيش الذي ذاق مرارة الهزيمة هو ذاته الجيش الذي عرف حلاوة النصر، وأصبحت قدرته القتالية محل تقدير واحترام .
إن الآلام العظيمة تصنع الأمم العظيمة، كما أن المعاناة القاسية تفتح طاقات الأمل أمام الشعوب المتحضرة. ولا شك أن مصر بل والعرب جميعاً بعد يونيو 1967، يختلفون عما كانوا عليه قبلها ويدركون العدو من الصديق، ويميزون بين الدول والسياسات والمواقف. وسيظل يوم 5 يونيو يضفي غمامة من الحزن النبيل على ذلك الشعب العريق، الذي صنع الحضارات واستوعب الثقافات وآمن بالديانات، وظل نموذجاً للتسامح الإنساني وتعبيراً عن عبقرية الزمان والمكان، دون تعصب أو تمييز أو إقصاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"