«إدلب وحلب».. هزيمة استراتيجية لأردوغان

03:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

العمليات العسكرية الواسعة التي قام بها الجيش السوري إلى جانب حلفائه في محافظتي إدلب وحلب خلال شهري يناير/كانون الثاني، وفبراير/شباط؛ أسفرت عن تحقيق انتصارات كبيرة، غيّرت خرائط السيطرة العسكرية في شمال سوريا الغربي بصورة حاسمة لمصلحة الجيش السوري.
مثلت هذه الانتصارات هزيمة عسكرية ومعنوية وسياسية كبرى للفصائل الإرهابية وللنظام التركي، الداعم لهذه الفصائل، والذي شارك مباشرة في عدد من المعارك، والأمر المؤكد أن هذه التطورات ستترتب عليها نتائج ذات أهمية استراتيجية كبيرة لمستقبل سوريا، وستكون لها انعكاساتها الإقليمية والدولية.
ولسنا بحاجة للدخول في تفاصيل هذه المعارك، كما أن المجال لا يتسع لذلك.. وحسبنا أن تقول إنها أدت إلى استعادة الجيش السوري وحلفائه مناطق واسعة في محافظة إدلب، وصولاً إلى مدينة سراقب الاستراتيجية؛ ملتقى طريقي حلب- دمشق، وحلب اللاذقية الدوليين، ولاستعادة طريق حلب- دمشق بأكمله، وتأمين وإعادة فتحه، واختراق طريق حلب- اللاذقية ومواقع مهمة حوله باتجاه الغرب.. كما أدت إلى استعادة السيطرة على محيط مدينة حلب وأحيائها وضواحيها الغربية، بما فيها المنطقة الصناعية ذات الأهمية البالغة، وتأمين المدينة بالكامل وإعادة تشغيل مطارها الدولي لأول مرة منذ عام 2012.

ماذا تعني حلب؟

استعادة السيطرة على محيط حلب، وإعادة تشغيل مطارها الدولي، وفتح الطريق بينها وبين دمشق؛ يمثل انتصاراً استراتيجياً للدولة السورية، فحلب هي ثانية كبرى مدن البلاد، وعاصمة الشمال، كما أنها العاصمة الاقتصادية لسوريا، ومركزها الصناعي الأول. وكانت قبل نشوب الحرب (2011) تسهم بنحو (25%) من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتتركز في منطقتها الصناعية صناعات مهمة كالغزل والنسيج والملابس الجاهزة والأجهزة الكهربائية المنزلية وغير المنزلية، والصناعات الكيماوية والدوائية، والصناعات الهندسية، وصناعة الأثاث، فضلاً عن الصناعات الغذائية بمختلف أنواعها، وغير ذلك مما يلبي احتياجات السوق المحلية، ويتم تصدير الفائض (بما قيمته 500 مليون دولار عام 2010). كما أنها المركز الأهم للأيدي العاملة الماهرة والخبرة الفنية والاستثمار.
وفي ظل ظروف الحصار الاقتصادي القاسي الذي تواجهه البلاد، فإن عودة الحياة الطبيعية والنشاط الاقتصادي للمدينة؛ ستقدم دفعة بالغة الأهمية للاقتصاد السوري، كما أنه من المتوقع أن تكون الورشة الأهم؛ لإعادة الإعمار.
كما أن عودتها تعزز شرعية النظام سياسياً ومعنوياً، خاصة على ضوء الاستقبال الجماهيري الحاشد الذي لقيه الجيش السوري عند دخوله المدينة، وهذا في حد ذاته يعد أمراً يحمل دلالة كبيرة.

نظرة على الخريطة

وفيما يتصل بشرعية النظام يجب القول- قبل كل شيء- إنه يتمتع بالشرعية الدولية؛ من خلال عضوية سوريا في الأمم المتحدة، ومشاركتها في أعمال المنظمة الدولية، بغض النظر عن رأي أردوغان أو الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية؛ لكن قدرة النظام على السيطرة على أرض بلاده، تعد بلا شك أحد عوامل تأكيد شرعيته. ومن هذا المنطلق، فإن القضاء على الفصائل الإرهابية في غوطة دمشق، ثم في جنوب غربي البلاد «الجولان ودرعا والسويداء» والوصول إلى الحدود الأردنية والعراقية كانت خطوات ذات أهمية استراتيجية.
ولا ينبغي أيضاً أن ننسى أن المرحلة الحالية من المعارك في إدلب وحلب، قد سبقتها مرحلة أولى في الصيف الماضي، تم خلالها استعادة السيطرة على شمال محافظة حماة، والجزء الجنوبي الغربي من محافظة إدلب وصولاً إلى خان شيخون (أغسطس/آب 2019)، ويجب ملاحظة أن الإعلام يطلق تسمية إدلب- بالخطأ- على منطقة تشمل محافظة إدلب نفسها، إضافة إلى شمال حماة ومحيط حلب والجزء الشمالي الشرقي من محافظة اللاذقية! محافظة إدلب وحدها تبلغ مساحتها (6100 كم2).. وهي التي تجري فيها المعارك الآن.
ومن ناحية أخرى، فقد استعاد الجيش السوري السيطرة على الجزء الأكبر من منطقة شرق الفرات؛ بعد انسحاب القوات الأمريكية، وكذلك على الجزء الأكبر من منطقة الحدود السورية- التركية.
ولذلك كان وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو مهتماً بتأكيد حقيقة أن الدولة السورية تسيطر الآن على أكثر من (90%) من أراضي البلاد؛ بعد استعادتها أكثر من نصف «منطقة إدلب» إلى جانب جزء كبير من المحافظة ذاتها، والمؤكد أن هذه الحقيقة في حد ذاتها تمثل واقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية، أنتجته انتصارات الجيش السوري إلى جانب حلفائه عبر معارك طاحنة.

ماذا تبقى من سوتشي؟

معروف أن مراوغة أردوغان في تنفيذ اتفاق سوتشي كانت السبب في اتخاذ دمشق وموسكو قرار الهجوم على «منطقة إدلب» الصيف الماضي- كما ذكرنا- ثم كان استمرار المراوغة دافعاً لشن الهجوم الحالي «المرحلة الثانية».. وقد اتسمت هذه المرحلة بحشد ضخم للقوات، وبضراوة المعارك التي تعرضت فيها الفصائل الإرهابية لهزائم قاسية، وخسائر فادحة في الأرواح والمعدات، دفعت القوات التركية للتدخل؛ لنجدتها في عدد من المعارك، وأدى هذا إلى تغيير القوات السورية والحليفة لقواعد الاشتباك، فقصفت القوات التركية أكثر من مرة؛ ليسقط (17) قتيلاً تركياً حتى الآن.
وأدى هذا إلى إحراج شديد لأردوغان، فوجه إنذاراً للقوات السورية بالانسحاب إلى خطوط ما قبل بدء القتال، قبل نهاية فبراير/شباط، وإلا فإنه سيضربها، وزج بقوات ضخمة إلى نقاط المراقبة التركية، الأمر الذي جعلها في وضع أشبه بالرهائن، من دون أن تفقد القوات السورية والروسية إصرارها على مواصلة الهجوم، والحقيقة أن إعلان أردوغان عن الدعوة لعقد قمة رباعية (روسية- تركية- ألمانية- روسية) يوم 5 مارس/آذار يُلقي بظلال من الشك على جدية إنذاره، وعلى إدراكه للمخاطر الكبيرة التي تحيط بقواته المحاصرة في إدلب، في حالة نشوب مواجهة واسعة، خاصة أنه من الواضح أن أحداً لن يتدخل للقتال إلى جانبه.. لا أمريكا ولا «الناتو».. علماً بأن بوتين لم يعلن موافقته على قمة 5 مارس/آذار حتى الآن.
وهكذا تهتز الورقة السورية بشدة في يد أردوغان، ويجد نفسه معرضاً لفقدها تماماً إذا استمر في التصعيد، واستمرت الانتصارات السورية، خاصة بعد أن تأثرت معنويات إرهابييه سلباً؛ بسبب الهزائم والخسائر المتتالية، وأصبح المرجح أن يفرض عليه الروس شكلاً معدلاً من أشكال اتفاق «أضنة 1998» أو تعديلاً واسعاً لاتفاق سوتشي الذي لم ينفذه.. كما تعرضت علاقاته بروسيا لتدهور كبير، ما يضيق عليه الخناق في اللعب على التناقضات الروسية- الغربية.
أما إذا تم حل الوضع في إدلب فإن قوات سورية كبيرة ستتحرر، وتتجه لمجابهته في شرق الفرات بالتنسيق مع الأكراد، وهذا آخر ما يريده.. والخلاصة أن انتصارات الجيش السوري ستترتب عليه متغيرات استراتيجية كلها غير مواتية إطلاقاً لأردوغان.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"