«التغيير الديموغرافي».. هدف تركيا في سوريا

02:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد عبدالقادر خليل

عمدت تركيا خلال الأشهر الماضية، إلى توظيف الاتفاق التركي - الروسي من أجل توسيع نطاق النفوذ في مدينة إدلب، وقطع الطريق على أي طموح مستقبلي بشأن استعادة النظام السوري السيطرة على المدينة، على حساب القوات التركية، والميليشيات الراديكالية المدعومة منها.
جاءت تحركات أنقرة انطلاقاً من تفسيراتها الخاصة للاتفاق التركي - الروسي، وبنوده، والمنطلقة مما تقتضيه مصالحها الذاتية، وليس تأسيساً على ما نصت عليه التوافقات الثنائية مع روسيا، وجسّدها الاتفاق بنصه على إنشاء ممر آمن على عمق 6 كم شمال، وجنوب طريق حلب - اللاذقية الدولي (4M)، وتسيير دوريات تركية - روسية مشتركة، على امتداد الطريق بين منطقتي ترنبة (غرب سراقب)، وعين الحور، وكذلك وقف إطلاق النار في إدلب على خط التماس الذي تم إنشاؤه وفقاً لمناطق «خفض التصعيد».
لم يكن الاتفاق، رغم وضوح نصوصه، كافياً للجانب التركي الذي نظر إليه بحسبانه محض وسيلة للتهدئة، تسمح بإيجاد حالة وسط تمنع الصدام، ولكنها في الوقت نفسه لا يمكنها خلق توافقات قابلة للاستمرار، أو الرهان عليها، لاسيما وأن أنقرة، في الأساس، لم تسع إلى الوفاء بالتزاماتها الخاصة بإنهاء وجود الجماعات المدعومة منها في إدلب، ك«جبهة فتح الشام»، وإنما استعملت الاتفاق نفسه من أجل دعم تواجدها العسكري، وحلفائها من الجماعات الراديكالية في مدينة إدلب.
هدف أردوغان من وراء ذلك لم يكن حل الصراع، وإنما محض إعادة التموضع، وإبعاد قوات الجيش السوري، والحد من قدرته على تضييق الخناق عليها، وخلق مساحات لمد النفوذ على الأرض، عبر إضافة العشرات من مواقع التمركز العسكري المباشر، وإنشاء سلسلة متصلة من نقاط المراقبة لترسيخ التمركز العسكري في الشمال السوري.
فقد أضاف الجيش التركي، خلال الأيام القليلة الماضية، خمس نقاط عسكرية جديدة في ريف إدلب الغربي، ليرتفع عدد نقاطه هناك إلى نحو خمسة تمركزات، أنشأها خلال أقل من أسبوع واحد في مناطق بداما، والبرناص، والزعينية، وبكسريا، والفريكة قرب جسر الشغور بريف إدلب الغربي.


تمدد تركي


وأفضت استراتيجية تركيا الخاصة بالتمدد تحت مسمى نقاط التمركز، لأن تسيطر أنقرة على نحو 57 نقطة عسكرية في مناطق خفض التصعيد في شمال غربي سوريا، التي تضم أجزاء من إدلب، وحلب، وحماة، واللاذقية.
وتأتي سياسات تركيا في هذا الإطار مصحوبة بتحولات نوعية، في ما يخص المستوى العسكري المصاحب لتأسيس هذه التمركزات، إذ تتزامن مع عمليات نقل أسلحة نوعية، والعمل على إقامة بنية تحتية عسكرية في عمق مدن سورية، بالتوازي مع العمل على رفع مستوى وكثافة الفرق القتالية التركية الموجودة في الشمال السوري، لاسيما تلك التي أنشئت حديثا في ريف إدلب الغربي.
وفي هذا السياق، بلغ عدد الآليات التركية التي دخلت الأراضي السورية منذ بدء وقف إطلاق النار، بموجب التفاهم مع موسكو نحو 1400 آلية، إضافة إلى آلاف الجنود.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان ارتفع عدد الشاحنات والآليات العسكرية، التي وصلت منطقة «حفض التصعيد»، منذ 2 فبراير/ شباط الماضي، إلى أكثر من 5100 شاحنة، وآلية عسكرية تحمل دبابات، وناقلات جند، ومدرعات، و«كبائن حراسة» متنقلة مضادة للرصاص، ورادارات عسكرية، فيما بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب وحلب، خلال تلك الفترة أكثر 10000 جندي.


انتقام مزعوم


وقدّر «معهد دراسات الحرب»، عدد المقاتلين الأتراك في الشمال السوري، لاسيما إدلب، وريفها، خلال الشهرين الماضيين، بنحو 20 ألفاً. وأشار إلى أن التحركات التركية اعتمدت على القوات الخاصة، والوحدات المدرعة، وفرق «الكوماندوز»، إضافة إلى الوحدات التي شاركت في العمليات التركية السابقة في عفرين، بما في ذلك لواء «الكوماندوز الخامس» المتخصص في «حرب المدن».
وتنوعت أهداف تركيا من وراء ذلك، فعلى مستوى ما أسمته المصالح الاستراتيجية انطلقت أنقرة من ادعاء الرغبة في الانتقام لمقتل 36 جندياً تركياً في غارة للجيش السوري في إدلب في 27 فبراير/ شباط الماضي، كوسيلة لضرب تمركزات الجيش السوري، والعمل على شرعنة التواجد التركي العسكري المباشر، والسيطرة على الأرض والموارد السورية، بما تشمله بعض المناطق من مخزون طاقة.
وكان استخدام مبررات الرغبة في الانتقام وتهدئة حدة الغضب الشعبي، بعد سقوط المزيد من القتلى في صفوف الجنود الأتراك، وسيلة أخرى من أجل العمل على تحييد القدرات الجوية السورية، وإرسال نظم دفاع جوي متوسطة المدى من طراز (MIM-23 HAWK) إلى إدلب، في محاولة لإقامة منطقة حظر جوي، لمنع قوات الجيش السوري من شن غارات جوية على القواعد العسكرية التركية في الشمال السوري.


منظومة «ستينجر»


عملت أنقرة، أيضاً، على إدخال منظومة «ستينجر» الأمريكية للدفاع الجوي، إلى الميدان السوري. ثم ألحقت ذلك برفع مستوى آلياتها العسكرية على مسرح العمليات. وشمل ذلك إرسال دبابات «ليوبارد 2»، و«التاي»، وعربات مصفحة، وناقلات مشاة، وعربات هجومية من نوع «كيربي»، وأنظمة مدفعية من نوع «تي آي - 155» ذاتية الحركة، وكذلك من طراز «يافوز»، إضافة إلى أنظمة حرب إلكترونية.
ويكشف مستوى العتاد التركي، ونوعيته، وأعداد الجنود الأتراك، الذين أضحوا يتمركزون على الأراضي السورية، أن أهداف تركيا تتأسس على الرغبة في إنشاء قواعد عسكرية دائمة غير قابلة للانسحاب، أو التوظيف في إطار مناورات سياسية.
فالهدف التركي يتمثل في جعل المساومة على مصالح أنقرة في إدلب غير واقعي، في إطار التطورات الحاصلة فعلياً على الأرض، ضمن خريطة تشمل مناطق غرب حلب، مروراً بريفي إدلب الجنوبي والشرقي، وريف إدلب الغربي، وصولاً إلى جبل التركمان ومنطقة الزعينة (غربي اللاذقية).
وتسعى تركيا بمقتضى ذلك إلى السيطرة الميدانية، وحماية حلفائها على الأرض، ومنع أي تقدم للنظام السوري بالقرب من مواقعها، وتتخذ من حرب الإرهاب وعمليات التصعيد مع قوات سوريا الديمقراطية ذرائع، ليس لشن عمليات عسكرية مثل «درع الفرات»، و«غصن الزيتون»، و«نبع السلام» وحسب، وإنما أيضاً لكي تخلق بمقتضى ارتدادات هذه العمليات واقعاً ميدانياً يصعب إنهاؤه، أو تغييره.
وينبني ذلك على أن تمركزات تركيا وتحركاتها العسكرية تُتبع بعمليات «تغيير ديموغرافي»، برزت ملامحها سابقاً في كثير من المحاور، كتهجير المواطنين من الغوطة الشرقية، وريف دمشق الجنوبي، والقلمون الشرقي، وريف حمص الشمالي، وريف حماة الجنوبي، إلى شمال سوريا، إضافة إلى عمليات نقل لاجئين إلى المناطق التي تحتلها في شمالي سوريا، لتؤسس «مناطق آمنة»، شعارها حماية المدنيين من العمليات الإرهابية، غير أن مواقعها تستهدف إخضاعهم، للإقامة في مناطق باتت تخضع للسيادة التركية، لا السورية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"