«سوتشي».. قمة مواقف بلا إنجازات

02:44 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

بينما تتلاحق التطورات العسكرية على الساحة السورية، منذ إعلان ترامب عن سحب القوات الأمريكية، حتى هجوم قوات «قسد» على المعاقل الأخيرة لتنظيم «داعش» في جيب «باغوز» على الحدود الشرقية لسوريا، فإن من الواضح أن جهود التسوية السلمية - خاصة على مسار آستانة - تتعثر إن لم تكن قد تراجعت خطوة إلى الخلف.
قمة سوتشي الثلاثية الأخيرة للدول الضامنة للتسوية (روسيا وتركيا وإيران) يوم 14 فبراير الجاري، سلطت الضوء بقوة على هذا التعثر، على الرغم من الصياغات الملتبسة وحمالة الأوجه، وتأكيد الرئيس الروسي بوتين بالذات على أن مناقشات القمة كانت بناءة وتفعيلية... إلخ.
وقد تضمنت أجندة قمة سوتشي الأخيرة ثلاثة موضوعات رئيسية هي:
* مصير المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا (شرقي الفرات) بعد الانسحاب الأمريكي المقرر من المنطقة.
* الوضع في إدلب، وسبيل تنفيذ اتفاق سوتشي بشأنها.
* استكمال تشكيل اللجنة الدستورية السورية وآليات عملها، والتسريع ببدء هذه العملية.
معروف أن تركيا تصر على السيطرة على المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا، المحاذية للحدود التركية (بعمق 30 كم وامتداد أكثر من 450 كم).. وإقامة «منطقة آمنة» فيها، وتطهيرها من العناصر «الإرهابية»، سواء كانت «داعشية» أو كردية انفصالية.. وتركز أنقرة اهتمامها على القوات الكردية بالذات، باعتبارها «إرهابية» وامتدادا لحزب العمال الكردستاني التركي، وترفض مطالبة دمشق بتسليم هذه المنطقة إليها - بعد الانسحاب الأمريكي - باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي السورية. وتتذرع أنقرة بمخاوفها من إقامة كيان كردي انفصالي في تلك المنطقة، يمكن أن يكون مجالا لحركة المسلحين من عناصر (حزب العمال) وعنصرا مشجعا لأكراد تركيا - جنوب شرقي البلاد - إلى السعي للانفصال، وإقامة دولة كردية.. وهو ما تعتبره تركيا تهديدا خطيرا لأمنها القومي، وبالتالي تعلن إصرارها على الحيلولة دونه بأي ثمن.
بينما ترفض روسيا وإيران الادعاءات التركية، وتريان فيها انتهاكاً خطيراً للسيادة السورية، واحتلالاً لجزء من أراضي البلاد.. وهو ما ترفضه سوريا بصورة قطعية.
كما ترفض بالطبع أي اتجاه انفصالي لدى الأكراد، أو إقامة أي كيان يحمل شبهة من هذا القبيل.. وتطالب دمشق بعودة الأراضي التي ينسحب منها الأمريكيون إلى سيادتها، وتؤيدها في ذلك كله موسكو وطهران.
أما واشنطن فترفض إعادة الأراضي السورية إلى سيادة دمشق!! كما ترفض فكرة «المنطقة الآمنة» التركية، خاصة بهذه الأبعاد الضخمة التي تطلبها تركيا.. وتريد إقامة (كيان مستقل) للأكراد والأقليات القومية والعرقية في شرق الفرات، يسيطر عليه الأكراد - حتى وإن كان أغلب سكانه من العرب - ويكون تابعا لأمريكا.
ولا يتسع المقام هنا للدخول في التفاصيل، وحسبنا أن نقول إن روسيا - آخذة في الاعتبار، المخاوف والذرائع التركية - قد اقترحت إحياء اتفاق قديم منسي بين دمشق وأنقرة (اتفاق أضنة - 1998) الذي يعطي تركيا الحق في مطاردة أي عناصر كردية مسلحة تتحرك على أراضيها، بعمق (5 كيلو مترات) داخل الأراضي السورية.. بما يبطل ادعاءات أنقرة بضرورة إقامة «المنطقة الآمنة» الدائمة المشار إليها.. والتي يصعب إخراج تركيا منها فيما بعد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أطماعها القديمة في الشمال السوري. صحيح أن قمة سوتشي الثلاثية لم توافق على المطلب التركي (نعني روسيا وإيران).. لكن بيان القمة أكد بوضوح التصميم على مقاومة الخطط الانفصالية (الكردية) الهادفة إلى تقويض سيادة سوريا، وسلامة أراضيها، وكذلك «الأمن القومي للدول المجاورة»، كما تضمن صيغة موازنة يمكن اعتبارها موجهة للأكراد والأتراك معا، هي: «رفض كل المحاولات لخلق واقع جديد على الأرض، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب». إلا أن أردوغان أصر في تصريحاته في المؤتمر الصحفي التالي للقمة على التأكيد مرارا على «المنطقة الآمنة»، رغم موافقته السالفة على «سيادة سوريا»!!
وإن كان قد أشار بطريقة عابرة إلى إمكانية تطبيق (اتفاق أضنة في المستقبل، بفرض أن تركيا ستخلي «المنطقة الآمنة».. وهو أمر مشكوك فيه تماما.. كما أشار أردوغان إلى مباحثاته المستمرة بشأن (شرق الفرات) مع الولايات المتحدة، وهو ما يثير القلق على ضوء موقف واشنطن المعروف.
القضية الرئيسية الثانية، التي ناقشتها القمة كانت تنفيذ اتفاق سوتشي (سبتمبر 2018) بشأن إدلب.. وهو ما لم نجد له انعكاسا في البيان الختامي، وإن كان بوتين قد أشار في كلمته إلى أن العالم لا يستطيع أن يتحمل بؤرة إرهابية خطيرة مثل إدلب.. كما تحدث لافروف بعد القمة، عن قرب (تسيير دوريات مشتركة روسية - تركية) وأعلن أردوغان عن إمكانية شن عمليات روسية - تركية ضد «النصرة».. وهو ما كان بوتين قد تحدث عن «ضرورة النظر فيه».
علما أن الاتفاق المشار إليه كان يقضي بإقامة منطقة عازلة في إدلب بعمق (15 -20 كم) يتم إخلاء الإرهابيين والأسلحة الثقيلة منها بحلول منتصف أكتوبر (2018).. وكان الجدول الزمني للاتفاق يقضي بإتمام نزع السلاح الثقيل والمتوسط من «جبهة النصرة» وغيرها من التنظيمات الإرهابية، وفصلها تماما عن المنظمات المسلحة (الموصوفة بالمعتدلة) الخاضعة للنظام التركي بحلول منتصف يناير 2019.
ومعروف أنه لم يحدث شيء من هذا كله، بالرغم من تدفق قوات تركية ضخمة على إدلب بزعم تنفيذ الاتفاق.. بل تركزت «النصرة» في المنطقة العازلة، وشنت هجمات على الفصائل (المعتدلة) وأدمجت بعضها في قوامها.. وأصبحت تسيطر على (90%) من مساحة إدلب تحت سمع وبصر تركيا (ويمكن القول بإشرافها) وتشن الهجمات باستمرار على مناطق سيطرة الجيش السوري وحلفائه.. أما تركيا فعبرت عن أطماعها في إدلب بإدخال خدمات البريد والكهرباء في مناطق سيطرة النصرة.. وواضح أن اتجاهها هو (تثبيت) سيطرة النصرة، وإدماجها في الفصائل الأخرى، وفي المجالس المحلية.. بينما تحول الظروف الإقليمية والدولية شديدة التعقيد دون شن هجوم روسي - سوري شامل على المنطقة في الوقت الراهن.
القضية الثالثة، أي استكمال تشكيل اللجنة الدستورية لم يتم البت فيها، وإنما التأكيد على ضرورة تسريع العملية.. أي إنه لا جديد في الأمر.
الباقي (كلام مرسل) عن ضرورة توسيع المشاركة الدولية في عملية آستانة.. واقتراح تركي بضم لبنان(!!) والعراق للعملية.. وإذا كانت سياسة لبنان الرسمية هي «النأي بالنفس» عن الأزمة السورية، فلا ندري كيف يمكن ضمه؟! أما العراق - في وضعه الحالي - فهناك مشكلات ضخمة تحول دون انضمامه.. ولن نتحدث عن علاقات القوى، وما يمكن أن يضيفه انضمام البلدين لعملية آستانة.
خلاصة القول.. إن القمة كانت أقرب إلى (قمة إعلان مواقف) ولم تحقق خطوة جدية في اتجاه التسوية في سوريا.. ويبقى الأطراف في انتظار المتغيرات الإقليمية والدولية، ويبقى أردوغان متمترساً عند مواقفه.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"