«صفقة القرن».. نكبة ثالثة

03:13 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى

رأى المعلق في «هآرتس»، جدعون ليفي أن «صفقة القرن» التي عرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «نكبة ثالثة» على الفلسطينيين بعد نكبتي 48 و67. وفي نظره إذا كانت النكبة الأولى هي تهجيرهم من أرضهم، والنكبة الثانية خسارتهم لحريتهم، فإن النكبة الثالثة تسحق «بقايا آمالهم».
ليس جدعون ليفي وحيداً في توصيفه لمعاني خطة ترامب؛ حيث إن رئيس تحرير «هآرتس» ألوف بن يكتب هو الآخر أن «صفقة القرن» تطلب من الحركة الوطنية الفلسطينية الاستسلام بدون شروط، مثل ألمانيا واليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وحسب ترامب، السلام سيتحقق فقط إذا توقف الفلسطينيون عن ترديد «رواية الماضي» ووجهوا أنظارهم إلى الأمام، نحو الاعتراف الدبلوماسي والنمو الاقتصادي المتوقع لهم.
والواقع أن «صفقة القرن» لا تطلب من الفلسطينيين نسيان «رواية الماضي» فقط، وإنما تطالبهم أيضاً بتبني الرواية الصهيونية لتاريخ بلادهم. تشهد على ذلك مقدمة «صفقة القرن» والتي تنزع كل صلة بين الفلسطيني وترابه الوطني، وتتبنى بالكامل الرواية التوراتية. وهو ما حدا بالمعلق، تسفي بارئيل للحديث عن أن منطلقات «صفقة القرن» هي فعلاً الرواية التوراتية وليس القانون الدولي.

لا تحقق السلام

كما أن كبار المعلقين في وسائل الإعلام «الإسرائيلية»، إلى جانب عدد من قادة الأحزاب في الدولة العبرية، أعلنوا أنه وعلى الرغم من محاباة هذه الصفقة للكيان فإنه يصعب تخيل أنها تقرب الكيان من السلام مع الفلسطينيين. وإذا لم تقد هذه الصفقة فعلياً إلى حرب فإنها حقاً تبعد إلى حد بعيد فرص تحقيق السلام. والصفقة في كل الأحوال تُشرعن نظام الفصل العنصري الذي تنتهجه سلطات الاحتلال، وتجعل «الأبرتهايد» نظاماً سائداً.
وعلى الرغم من الحديث في حفل إطلاق «صفقة القرن» فإن الفلسطينيين كانوا غائبين ليس فقط عن الحفل، وإنما أيضاً عن ذهن المبادرين لهذه الصفقة. فغيابهم كان مطلوباً؛ لإتمام مهمة تأكيد حق الكيان في التصرف منفرداً، بعد أن منحته الإدارة الأمريكية كل مقدمات تجسيد هذا الحق؛ عبر الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، ومن خلال رفض التعامل مع الضفة الغربية على أنها أرض محتلة. وما الحديث عن «فلسطين الجديدة» إلا خدمة لفظية؛ لإظهار «نزاهة مزعومة» لا ترتكز إلى أية معطيات فعلية.

جواري وأتباع

وقبل الخوض في رد الفعل الفلسطيني لا بد من الإشارة إلى حقيقة المنهج الصهيوني الذي تجسد على مدى عقود الاستيطان والحروب وضم الأراضي. فعندما قبل الصهاينة بمشروع التقسيم برر زعيمهم، ديفيد بن غوريون، هذا القبول بعبارة: «يجب إقامة دولة يهودية في الجزء الذي توجد فيه أغلبية يهودية... وفي الجزء الآخر، الانتظار إلى حين وجود أغلبية يهودية فيه». وهو ما انطلق منه نتنياهو وأنصاره في البيت الأبيض الأمريكي؛ لإبقاء الفلسطينيين في معزل بانتظار حرمانهم منها، عندما تحين ظروف مناسبة.
ومن أبرز الدلائل على هذه الرؤية احتواء «صفقة القرن» مثلاً على إشارات لفلسطينيي الداخل في مناطق 48 باعتبار وجودهم ك«مناطق مأهولة» وليس كأراض قابلة للحياة، موضوعاً للتبادل. كما أن حق الفلسطيني في العودة الذي كفلته له الشرائع والقرارات الدولية مرفوض، ويمكن مقايضته بتعويضات وتوطين في بلاد الشتات من دون استشارة لا اللاجئ ولا الدول المضيفة. وبعد كل ذلك يأتي الحديث عن حق تقرير المصير للفلسطينيين على أرضهم عبر تقييد هذا الحق من ناحية، وانتزاع الأرض منهم من ناحية ثانية. والأهم أن كل هذا يأتي تحت الرعاية الصهيونية، وبشكل يحول ما تبقى من السلطة الفلسطينية حسب عميرة هيس «من مقاول فرعي إلى جارية أمنية لإسرائيل».
وتُبقي «صفقة القرن» الفلسطينيين على أرض فلسطين أتباعاً للدولة العبرية التي تسيطر ليس فقط على حدودهم وسمائهم ومياههم الجوفية، وإنما على منهاجهم التعليمية، وسلوكهم الاقتصادي والسياسي. فليس من حق الفلسطينيين إنشاء علاقات دولية لا يريدها الكيان وليس من حقهم إنشاء قوة للدفاع عنهم؛ لأن الدولة منزوعة السلاح، والكيان هو من يدافع عنها.

رفض فلسطيني

وأمام هذه الخطة التي اعتبرها الفلسطينيون منذ اللحظة الأولى «مؤامرة» مفضوحة ضدهم لم يجدوا بُداً من إعلان رفضهم لها، واستعدادهم لمقاومتها. وقد أعربت كل القوى الفلسطينية، من دون استثناء، في الأراضي المحتلة عام 1967 والأراضي المغتصبة عام 1948 وفي الشتات عن رفضها لها، ونظمت مسيرات غضب لإدانتها.
ولكن ماذا بعد ذلك؟ جاء الرد الرسمي الفلسطيني على لسان الرئيس محمود عباس في رسالة موجهة لكل من الحكومة «الإسرائيلية» والإدارة الأمريكية بالتحلل من التزامات اتفاقات أوسلو بعد انتهاكها، وتحديد مرجعية جديدة. وأعلن الرئيس عباس في اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب أنه أبلغ الاحتلال «بقطع كل العلاقات معه، بما فيها الأمنية» مؤكداً: «لن أسجل على تاريخي أنني بعت القدس، ولن نتنازل عنها». كذلك أعلن عن قطع كل أشكال التعامل مع الإدارة الأمريكية على خلفية سياستها تجاه فلسطين.
وبدا واضحاً أن الرد الفلسطيني تمحور أولاً في محاولات توحيد الصف؛ من خلال الإعلان عن أن الانقسام مع «حماس» «بات خلف ظهورنا»، وعبر حشد الدعم العربي ضد «صفقة القرن» كما ظهر في البيان الختامي لاجتماع وزراء الخارجية العرب.
ومن المؤكد أن الجهود الفلسطينية والعربية ستتجه نحو المحافل الدولية وخصوصاً في الدائرتين الإسلامية والأممية المناصرة؛ لمواجهة تبعات الخطة الأمريكية.
والكثير مما سيأتي سيعتمد على ترجمة القرار الفلسطيني بالتحلل من التزامات اتفاق أوسلو وإنهاء كل أشكال التعامل مع الكيان. وهذا يقود واقعياً إما إلى إنهاء السلطة الفلسطينية وعودة الاحتلال لممارسة دوره في إدارة شؤون الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وإما إلى ابتداع شكل جديد بين الإدارة الفلسطينية للحياة اليومية والاحتلال. وقد تداعت شخصيات فلسطينية في الأراضي المحتلة، مطالبة بالعودة إلى القيادة الوطنية الموحدة التي قادت الانتفاضة الأولى.

سيناريوهات

ومع ذلك من المنطقي الافتراض بأن أمام الفلسطينيين واقع بالغ التعقيد يفرض عليهم إما انتهاج أسلوب واحد أو الجمع بين عدة أساليب في النضال ضد الصفقة. وقد لخص مركز «مسارات» السيناريوهات المحتملة أمام الفلسطينيين بأنها تتراوح بين استمرار الوضع الراهن والانتفاض جوهرياً عليه. وإلى جانب ذلك هناك احتمال بأن تفلح الضغوط الأمريكية و«الإسرائيلية» في تحقيق اختراق في الموقف الفلسطيني على الأرض. ومع ذلك، من الجلي أنه وحتى إذا أفلح الكيان في تمرير بعض بنود «صفقة القرن» على الحياة الواقعية في ظل الاحتلال فإن الشيء المؤكد أنه لن يفلح في نيل الاعتراف الفلسطيني بذلك.
وهذا يقود إلى الاعتقاد بأن الأمور تتجه أكثر نحو انفجار الوضع في الأراضي المحتلة، ما يفرض على الكيان العودة للاحتلال الفعلي أو التراجع عن الصفقة؛ لضمان إيجاد شريك فلسطيني محتمل للتسوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"