«عاصفة مهاجرين» في وجه ترامب

03:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
شادي المصري *

قبل أن يدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الأبيض، كانت تصريحاته لجهة المهاجرين تسبقه، فلم يكن الرجل مرحباً بالهجرة غير الشرعية، بداية، وتالياً رأيناه والعالم من حولنا يمضي في إجراءات قسرية تجاه مواطني دول جلها إسلامية؛ لمنع دخول مواطنيها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
الذين لديهم علم من كتاب بشأن ترامب والدولة البيضاء العميقة، التي أوصلته إلى المكتب البيضاوي داخل البيت الأبيض، يدركون أن الرجل جزء لا يتجزأ من منظومة «الواسب» أي المواطن الأبيض الأنجلوساكسوني البروتستانتي، ذاك الذي تعالت هواجسه في العقدين الأخيرين من جراء تغير الديموغرافيا الأمريكية، ولفه الخوف من أن يضحى أقلية خلال ثلاثة عقود على الأقل، لصالح اللاتينيين من جهة، والآسيويين والعرب والمسلمين من جهة ثانية، وبين هؤلاء وأولئك يبقى شبح هنتنجتون حاضراً ومستحضراً إشكالية الصدام الحضاري.
السؤال محل النقاش، هل الآليات التي تعاطى بها دونالد ترامب حتى الساعة مع إشكالية القافلة القادمة من دول أمريكا الوسطى، لا سيما هندوراس، تتسق وأمريكا الواقعية أم المثالية؟
قبل الجواب والدخول في عمق التحليل والدلالات، ينبغي لنا الإشارة إلى ما هو أهم، أي الأسباب التي دفعت هؤلاء المهاجرين التعساء إلى تجشم عناء السير والمسير، وتعريض أرواحهم وأطفالهم إلى المخاطر، التي وصلت إلى حد تفكير سيد البيت الأبيض بالرد على حجارتهم بالرصاص الحي.
باختصار غير مخل، ما جرى ذلك إلاّ لأنهم ضاقوا ذرعاً بالفقر والبؤس في بلادهم، وربما أيضاً الهرب من ذلك المصير الأسود الذي يطاردهم، متمثلاً في العصابات التي تملأ الأرجاء، ولم يكن ذلك ليحدث لولا أنظمة فاشلة وفاسدة، ديكتاتورية في مجملها، زخمتها إدارات أمريكية متعاقبة طوال عقود؛ من أجل تحقيق مصالحها الإمبراطورية، في منطقة تعد خلفية استراتيجية لأمريكا العظمى.
نحو سبعة آلاف من أبناء أمريكا الوسطى، من بينهم قرابة ثلاثة آلاف طفل يقصدون الحدود الأمريكية، وبحسابات المسافات فإنهم لن يتمكنوا من بلوغها قبل ثلاثة إلى أربعة أسابيع، ومن هنا يتساءل المرء هل كانت تصريحات وتحركات ترامب لعباً على متناقضات يراد بها تحويل قضية إنسانية إلى أوراق لعب ومزايدات، قبل أيام قليلة من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس؟
أهم دلالة من دلالات الأزمة الخاصة بقافلة المهاجرين تتصل بحالة الانقسام الحادث في الذات الأمريكية، والتي وصفها ثعلب السياسة الأمريكي هنري كيسنجر في كتابه عن «النظام العالمي» بالقول إن أمريكا متذبذبة بين واقعية روزفلت ومثالية ويلسون، وبقول آخر أمريكا حائرة في داخلها بين المثل الأعلى لمدينة فوق جبل تنير للجالسين في الظلام حرية ومساواة وإخاءً، وتفتح أبوابها واسعة كما ينص دستورها للبائسين واليائسين والمعذبين، وبين واقعية يقودها رجال الأعمال الذين هم عبء على رجالات الفكر في أي حضارة.
لا يريد ترامب مهاجرين من «الثقوب القذرة» بحسب تعبيره، أي لا يريد بشراً من المهانين أو المجروحين، سواء من دول الجيران التي امتصت واشنطن خيراتها عقوداً طوالاً، وها هي تعاقبها الآن بقطع المساعدات عنها، أو من غيرها حول العالم.
ترامب يريد مهاجرين مؤهلين تأهيلاً عالياً، أي أولئك الذين يمتلكون عقولاً وإمكانيات ذهنية تدفع الإنتاج الأمريكي إلى الأمام، ولا يتطلع إلى منكسري النفس هنا أو هناك، ويكاد المرء يشتم في تصريحاته رائحة ما لصرخة نيتشه الفيلسوف الألماني، الذي كان الأصل الأيديولوجي للنازية... «اذهب ومت فإن ربي لا يحب الضعفاء».
كيف سيتعامل ترامب مع القافلة إن قدر لها الوصول بالفعل إلى الحدود الجنوبية الأمريكية؟
مثير جداً شأن الرجل، ومتأثر إلى أبعد حد ومد بنموذج الرجل الأبيض الذي أباد ملايين الهنود الحمر، وذلك لكي يتوسع غرباً ليبني دولته الإمبراطورية، وهو متأثر أيضاً بالنسق «الإسرائيلي» في التعاطي مع الشباب الفلسطيني الذي لا يملك سوى الحجر سلاحاً يدافع به عن نفسه.
ترامب في بداية تصريحاته، وقبل أن يتراجع عنها تحت ضغوط مجتمعية داخلية، بدا وكأنه يسأل القوات الأمريكية بأن تعتبر الحجر بمثابة بندقية، وعليه فإنه إذا ألقى المهاجرون حجارة، فإن الرد ينبغي أن يكون بالرصاص الحي، ذاك الذي لا يفرق بين رجل أو امرأة، شيخ مسن أو طفل صغير.
على أن الأكثر كارثية في المشهد هو تشجيع التيار اليميني العنصري المتطرف في الداخل الأمريكي، ذلك الذي يملك أسلحة أوتوماتيكية للتوجه إلى هناك.
القصة قرأها العالم أجمع من خلال صحيفة «الواشنطن بوست» التي أشارت إلى أن جماعات مدنية أمريكية تحمل السلاح، وميليشيات مسلحة ذات نوايا عدوانية بدأت في حزم أمتعتها، وتجهيز المبردات والخيام والبنادق والطائرات من دون طيار، مع خطط لتشكيل قوافل خاصة من جانبهم وتتبع القوات الأمريكية على الحدود.
هل علينا أن نصدق المؤرخ البريطاني الشهير «نيل فيرغسون» حين تحدث عن حرب أهلية قادمة في الداخل الأمريكي، مواكبة للانتخابات الرئاسية 2020؟
فإلى أين تمضي تلك الميليشيات التي حصلت مجلة «التايمز» الأمريكية على خططها المزعجة للجيش الأمريكي، بعد انتهاء مهمتها الكارثية في تكساس وعلى الحدود؟ السيناريو الوحيد المتصور أنها ستدفع المجتمع الأمريكي إلى حافة الهاوية من جديد، وسيناريوهات الانفصال باقية والحراك من حولها متصاعد.
ردات فعل إدارة ترامب، لا سيما البدء في بناء الجدار الفاصل على الحدود مع المكسيك، بعد أن خصصت إدارة الجمارك وحماية الحدود مبلغ 145 مليون دولار لبناء جدار حدودي في تكساس على حدود المكسيك بطول ما يقرب من 6 أميال، تعني أن أمريكا عوضاً عن أن تكون دولة الحلم الذي أبهر ملايين البشر حول العالم، تتحول رويداً رويداً إلى «غيتو» يتمترس جنوباً بالجدار، وشرقاً وغرباً بمحيطين عازلين، وعما قليل ستدور الدوائر العنصرية التي ستسعى حكماً لتخليق جدران عالية مع كندا.
المتابع للحراك المجتمعي الأمريكي بشأن قضية القافلة يدرك أن قلقاً كبيراً يسود القوات المسلحة الأمريكية، التي تحاول النأي بنفسها عن الصراعات السياسية، التي تريد توريط الجيش الأمريكي في الداخل، وتلهيه عن مهماته الرئيسية في الدفاع عن البلاد ليكون شرطة للحدود.
كما أن الرفض الواسع من قبل رموز الفكر والثقافة والفن والأديان في الداخل الأمريكي ينبئنا بالكارثة المحدقة بالبلاد، لا سيما أن كل بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت.
ومن الآن إلى حين وصول القافلة إلى الحدود، تبقى أمريكا في اختبار عميق نتيجته سوف تحدد ملامح ومعالم الإمبراطورية المنفلتة حتى نهاية ولاية ترامب الأولى.

* كاتب مصري متخصص بالشؤون الأمريكية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"