«مركز الفسطاط للحرف» بوابة استراتيجية لعودة جماليات الماضي

00:06 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة: «الخليج»

يكتسب «مركز الحرف» بمدينة الفسطاط في مصر القديمة أهمية خاصة، ليس فقط بسبب ما يتضمنه من ورش تخصصت في الأشغال والحرف اليدوية القديمة، بما تحمله من فنون وأعمال شديدة الدقة والإتقان، وإنما لأن المركز الذي افتتح أبوابه للسائحين والباحثين من مختلف دول العالم، يعد في نظر كثيرين بوابة لدخول تاريخ تلك الصناعات التي غزت العالم في وقت من الأوقات بدقتها وإبداعها وذوقها الفريد.
ويقع «مركز الحرف» في مدينة الفسطاط التي أسسها عمرو بن العاص، ويعد أحد المشروعات المهمة، التي استهدفت إحياء أمجاد ماضٍ عريق بحاضر مشرق، بإتاحة الفرصة أمام الفنانين والحرفيين لممارسة إبداعاتهم وتأكيد القيمة الفنية في هذا المضمار، لذا كان المركز مصدر إشعاع في منطقة الفسطاط، التي تعد من أهم مناطق مدينة القاهرة العريقة، وأكثرها ثراء حضارياً.

وتعود بدايات التفكير في إنشاء المركز إلى العام 1985، عندما كلفت وزارة الثقافة الفنان الراحل وشيخ الخزافين سعيد الصدر، بإنشاء وتأسيس مركز لفن الخزف بمنطقة الفخرانية بمصر القديمة، وقد أشرف الصدر على إنشاء المركز على شكل «أتيليه صغير»، يحتوي على فرن واحد لحرق الخزف، وقدم من خلال الإمكانات المحدودة نموذجاً رائعاً لتجربة فريدة من نوعها، وظل المركز يؤدي دوره ويعمل في خدمة الخزف والحرفيين بمنطقة الفسطاط، إلى أن قررت وزارة الثقافة سنة 1995 تطوير المركز، بإعادة إنشائه وتزويده بالمعدات والأجهزة والأفران الحديثة.

وبدأ بناء هذا المشروع في العام 1996، بمساحة تصل إلى 2400 متر مربع، واستلهم منفذوه التصميم المعماري من طراز عمارة الدكتور حسن فتحي، إلى أن تم الانتهاء من أعمال البناء في العام 2001.

ومنذ افتتاحه، ظل المركز يعمل في خدمة الحرفة والحرفيين، حتى أصبح منارة للحرفيين في المنطقة، برغم تواضع الإمكانات المادية في ذلك الوقت، إلى أن جاء القرار الوزاري بمرحلة أخرى في تاريخ مركز الخزف بالفسطاط، فتمت الصيانة الكاملة للأفران والمعدات الموجودة بالمركز، والتي أصبحت تضاهي الأفران الموجودة في أحدث مراكز الخزف بالعالم، ولم يكن التطوير منصباً على المعدات والآلات فقط، بل شمل أيضاً العمالة الموجودة بالمركز من خلال تأهيلها والارتقاء بمستوياتها الفنية، وذلك بالتعاون مع معهد الأمير تشارلز للحرف التراثية في بريطانيا، والذي قام بإعداد ورش عمل للعاملين بالمركز.
ارتبطت الحرف التقليدية، بمدى الازدهار الاقتصادي واهتمام الحكام بتأكيد دعائم حكمهم من خلال بناء المساجد والأسبلة والوكالات وغيرها من الأبنية، التي كانت تستلزم جمعاً من الحرفيين المهرة في مختلف أفرع الفنون الحرفية، وكانت هذه الحرف موضع اهتمام شيوخ الصنعة والحرفيين أنفسهم، فلم يكن يبوح الحرفي بأسرارها إلا للمقربين، ومن هنا فقد جسَّد المركز ذلك، فهو يحتوي على أقسام عدة، منها النجارة، والتطعيم بالصدف، والخرط اليدوي العربي، والأويما (الحفر على الخشب)، والزجاج المعشق، والحلي الذهبي.
ويحتوي قسم النجارة على كل أعمال النجارة من ماكينات وتجميع وخرط عربي وصدف وأستر، ويقوم هذا القسم بعمل جميع أنواع النجارة، وهي الحرفة التي تقوم على تشكيل الأخشاب بخرطها يدوياً إلى قطع مختلفة الأحجام والأشكال منفصلة أو متصلة في عمود، ويتم تجميع هذه القطع بتعشيقها في بعضها بعضاً، بدون مواد لاصقة، حتى تصبح صالحة للاستخدام في عمل المشربيات والنوافذ والسوائد وقطع الأثاث.
وللخرط أسماء وطرز كثيرة منها: «الكنايس»، وذلك لارتباطها بالكنائس قبل الإسلام، وتتفاوت قيمة المخروط تبعاً لحجم قطعة الخشب المخروطة، فكلما كانت صغيرة ودقيقة، اكتسبت قيمة فنية أكبر، وأيضاً مع استخدام تنويعات لونية باختلاف نوع الخشب المستخدم، أما فن التطعيم، فيبرز المركز هذا الفن، والذي هو عبارة عن تثبيت مواد منتقاة في مكان يتم حفره على السطح الخشبي بهدف تجميله بزخارف معينة، ومن أهم المواد المستخدمة في التطعيم الصدف والعظام بأنواعها والأخشاب الثمينة، كالأبنوس، والخشب الأحمر، والنحاس، والفضة.
واحتلت فنون التطعيم مكاناً مرموقاً بين الفنون الحرفية الأخرى، لارتباطها بالنجارة العربية منذ بداية الحضارة الإسلامية في مصر، أما فن الخرط اليدوي، فيشمل الحفر الغائر والبارز في الخشب، لخلق لوحة من الزخارف التقليدية الهندسية والنباتية.
وما يسعى المركز لإبرازه أيضاً، فن الزجاج المعشق، الذي يعتبر من أهم الحرف التي كانت تميز العصر الإسلامي، سواء على مستوى الحياة الدينية أو العمارة المدنية، وتصنع هذه الحرفة من الرخام الرقيق الذي يتميز بشفافية مع انعكاس ضوء الشمس، وقد تطورت هذه الحرفة بعد ذلك، حيث صنعت من الجبس المفرغ، بدون زجاج، على هيئة زخارف هندسية، وتمت إضافة زخارف نباتية وكتابية، وبعد ذلك تطورت بإضافة قطع من الزجاج الملون لسد الفراغات فزادتها جمالاً، وأضفت على التكوين الهندسي إبهاراً.
ويعتبر جامع أحمد بن طولون نموذجاً للزخارف الهندسية المفرغة الخالية من الزجاج المعشق، وانتشر بعد ذلك هذا الفن في العصر الفاطمي، والعهد الأيوبي، والعصر المملوكي، ثم العثماني.. ومن أشهر الأماكن الزاخرة بهذا الفن، مسجد الصالح طلائع، ومجموعة السلطان قلاوون، ومدرسة جوهر القنقبائي.
أما قسم الحلي بالمركز، فيسعى إلى إبراز ما خلفه الأجداد من روائع الحلي، باعتباره من الأدوات الحياتية، التي تحمل الكثير من القيم الجمالية والحس الفني المنعكس في صناعة متقنة دقيقة، حيث تعتبر فنون الحلي في مقدمة الفنون التي برع فيها الفنان المصري القديم، من خلال أساليب اللحام والطرق والكبس والحفر والنقش والتفريغ والتشكيل، حيث كانوا يشكلونها بمهارة في التصنيع والتطعيم بالعجائن الزجاجية والمينا.
وفي العصر الإسلامي استخدموا أسلوب التكفيت بالذهب على الفضة، أو العكس، أو النحاس، أما بالنسبة للحلي الشعبي، فقد استخدموا تقنية البارز والغائر وتركيب الأحجار، وحتى الآن مازالت الأساليب اليدوية مستخدمة في تصنيع الحلي.
وتعتبر حرفة الخيامية من الحرف القديمة تاريخياً، حيث ترجع للعصر الفرعوني، ويبدو ذلك بوضوح في بعض الملابس الفرعونية المزخرفة بشرائط مضافة، عن طريق التطريز مثل رداء «توت عنخ آمون»، الموجود بالمتحف المصري، ثم استمرت بعد ذلك في العهدين اليوناني والروماني.
ويحكي المؤرخون أن صناعة الخيام بلغت رقياً كبيراً قبل الفتح الإسلامي، في الحضر والبادية على حد سواء، وظهرت كسوات الأضرحة المطرزة بكتابات مثل «لا إله إلا الله»، كذلك المعلقات الحائطية، كما ظهرت المفارش والستائر ذات الزخارف الدقيقة المنفذة بطريقة الإضافة. وكان العصر المملوكي هو قمة الازدهار لحرفة الخيامية في ظل تسابق الأمراء والسلاطين على اقتناء كل غالٍ وثمين، ويعتبر شارع الخيامية بالقاهرة التاريخية، معقل حرفة الخيامية، وهو ما حرص مركز الحرف التقليدية على إحيائه. ويحتوي قسم النحاس، على الطرق التي كان يتم اتباعها في النقش على النحاس، والأركيت والتكفيت بالفضة والتلميع، ويضم هذا القسم مجموعة من الحرفيين على أعلى مستوى.
وتقوم أهداف مركز الحرف، على تحقيق أعلى المستويات التقنية والجمالية لإبداع منتجات فائقة الجودة، تحافظ على موروثات الشعب من الفنون والحرف التقليدية التي تعبر عن أصالته وعراقته، حيث يقوم بعمل منتجات تجمع بين الأصالة ومتطلبات العصر الحديث.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"