آباء يجنون على أبنائهم

02:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

يولد الإنسان على الفطرة الخيرة، ومنشأ هذه الخيرية مصداقية التعرف إلى الخالق، ونور الإيمان الذي تعمر به الفطرة منذ أن كانت في عالم الذر لقوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، وبناء على هذه الخاصية التي تفرد بها الإنسان نجد أن سائر طاقاته واحتياجاته إنما خُلقت أصلاً لخيره .

للحفاظ على نوعه، إلا أنها قد تصبح شراً إذا مالت أو انحرفت عن طريق الفطرة الخيرة، وبرغم احتفال كتب التربية والصحة النفسية بالدراسات التي تناولت أسباب الانحراف بالدراسة والاستقصاء، والتي تبدأ من التفكك الأسري، وغياب دور المربي إما لموت أحد الوالدين أو لسفره أو أداء عقوبة السجن أو نشأة المرء في بيئة إجرامية أو بيئة غير صحية، وأيضا الفقر والجهل البين إلا أن هناك مصادر أخرى للانحراف ربما تعد أصلاً لكل سبب مباشر وأهمها ضعف الوازع الديني، وأسوأ ما ينجم عن ضعف الإيمان عدم الرضا . ففي نطاق الأسرة المعسرة يقول الله تعالى مبيناً المبدأ الإيماني: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض .

فالمعسر في غيبة عن الإيمان نجده متسخطاً دائماً على كل أحواله، معرضاً عن منهج الله، معانداً، مقبلاً على أي عمل يمليه عليه هواه ولو كان منافياً لما يقره الشرع والقانون، والأبناء من حوله ينظرون، فيصبح الفساد بكثرة المشاهدة أمراً هيناً، فيحملون غراس ما زرعه من دون أن يعلم أنهم يتشربون منه في قلوبهم الغضة كراهية المجتمع وحقداً على من فيه .

وتصبح النظرة المستقبلية أمامهم لا تعدو أكثر من إشباع الشهوات، فيكثر ماله وهو غير مبال من حلال جاء أو من حرام ثم يلاحقه بعد ذلك الهم والغم، ويملأ عليه عدم القناعة حياته، فيشرع في تغيير أحواله البيئية ويبدأ بتسريح زوجه ويتبع ذلك تشريد الأبناء، ثم يعود ثانية أسير ضنك الدنيا، فتحاصره المشكلات، وتعتريه دوماً نوبات التسخط على كل شيء، وحتى لو حقق رغبة ما تجده سرعان ما يفتش عن نقيصة أخرى ليندب حظه فتتواصل معه حلقات سلسلة الضنك الذي يعيش فيه، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى عنهم: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى .

وفي نطاق الأسرة الموسرة أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون فنجد أن الموسر في غيبة الإيمان أيضا غير راض برغم وفرة خزائنه، لأنه مشغول بتكثيرها، واستقصاء المتعة على قدر يساره، وهو في حركة سعيه يحزنه أن يرى على الحلبة مصارعاً أقوى . أما الأبناء فهم تحت إمرة قدوة مغرورة مسيطرة شحيحة مغيبة عن ناظريهم، فلا رعاية ولا احتواء ولا ثواب ولا عقاب فلا نجدهم إلا مثل سابقيهم جيلاً ضائعاً تستهويه المغامرة والتجربة والتقليد الأعمى، فيلتف حولهم قرناء السوء، وربما يقعون صرعى الجريمة . ففتنة المال لا تقل خطورة عن فتنة الفقر، ولهذا قال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فما صبرنا .

فعدم الرضا في الحالين إفراز طبيعي لضعف الإيمان، فلا المعسر قانع في داخله يجاهد لتغيير أحواله، ولا الموسر قانع في داخله بما عنده، والأبناء في الحالين مع تفاوت الظروف الاقتصادية أسرى الطمع والشهوات .

لقد أوجبت الشريعة الغراء النفقة على الزوج، وجعلت له القوامة بمقتضى أمره تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم وقوله: وعلى المولود له رزقهن، ولم تحرم المرأة من العمل إن دعت الضرورة وإن أمنت الضوابط الشرعية: مثل غض البصر والتستر عدم الخلوة، إلا أن الكثير من الأسر خالفت المنهج، وأخذت المرأة شيئاً فشيئاً مسؤوليات الرجال من إنفاق وتربية وتبعات أخرى، وتثاقل الرجل أو تلكأ في أداء مسؤولياته مجبراً أو مختاراً، وساعد على ذلك ازدياد الطلب على المرأة في سوق العمالة، فأوجد ذلك الوضع نوعاً من الخلل الوظيفي في كيان الأسرة، ففقدت الزوجة والأم تلقائياً القناعة بتحمل قوامة الرجل التي اقتصرت على هيئته وبزته الرجولية، وصوته الجهوري برغم حرصها على الاعتبارات الرامزة لأنوثتها وأمومتها، والأبناء في هذه المرحلة لا يدركون سر هذا التحول الإجباري المفروض فيفتقدون القدوة المقننة بقانون السماء .

* أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"