أيام البكاء

03:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

من الصعب الحديث عن الحزن في الشعر العربي، لا لقلته وندرته في تمثلات ذلك الشعر؛ بل لكثرته ووفرته، حتى إن الانطباع الأول الذي يمكن أن يأخذه المتصفح على عجل لمرحلتين من مراحل ذلك الشعر هما مرحلة المعلقات ومرحلة الشعر العربي المعاصر، هو انطباع مفاده بأن الحزن «ظاهرة» في الشعر العربي.

في المعلقات الشهيرة التي تعتبر ـ بفهم نقدي معين ـ من أمهات الشعر عند العرب، يلاحظ القارئ سيادة نبرة معينة هي البكاء على الأطلال بما تمثله من حزن وأسى على منازل ومواقف معينة، وبما تجسده من انعكاسات للوعة الفراق وحزنه.

ويرى بعض النقاد الذين درسوا وصنفوا تلك التيمة الشعرية في المعلقات، أن الحزن الذي يداهم القارئ في مطلع أغلب المعلقات، هو مجرد توطئة تقليدية للدخول إلى المضمون الأساسي للقصيدة، بينما يرى آخرون أننا إذا ما أخذنا في الاعتبار علاقة الشاعر الحميمية مع المكان الحاضن لنشأته ومشاعره وذكرياته، وعلاقته مع قبيلته ومحيطه، عرفنا ببساطة لماذا تعددت صورة الحزن نفسها في بدايات كل معلّقة.

على كل حال، بعيداً عن تلك التصنيفات النقدية ومدى دقتها، يكفي تصفح بعض تلك المعلقات لنُدرك حرارة وصدق ذلك الحزن، فالحزن الذي يعبر عنه امرؤ القيس مثلاً في معلقته حين يقول:

قفا نبــك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وحين يقول:

كأني غـــــداة البيــــن يـــوم تحملـــــوا

لدى ســــــمرات الحي ناقـــف حنظــــل

هو نفسه النغمة الحزينة الصادقة التي نجدها عند طرفة بن العبد في معلقته، حين يقول:

وإني لأُمضــــي الهــــــمّ عند احتضــــاره

بعوجــــاء مِرقــــال تلـــوح وتغتـــدي

وقد يضيق المقام هنا عن التوسع في إبراز تلك «الظاهرة» في الشعر العربي الجاهلي، لكنها كما يبدو لازمت مراحل تطور أخرى في الشعر العربي، حتى وصلت إلى المرحلة التي تصنف بأنها شعر معاصر، فصبغته بصبغتها حتى عُدّ ذلك التطور الشعري شعراً حزيناً عند البعض، ويستدلون على ذلك بأن بداياته كانت عن موضوعات اجتماعية حزينة بحتة، فقصيدة نازك الملائكة المعروفة بعنوان «الكوليرا» التي تعد أول قصيدة تنشر من الشعر العربي المعاصر، هي قصيدة يغلب عليها الحزن وتسيطر عليها أجواؤه حين تقول فيها:

الموتُ الموتُ الموتْ /‏ تشكو البشريةُ، تشكو ما يرتكبُ الموتْ/‏ الكوليرا/‏ في كَهْفِ الرُعْب مع الأشلاءْ/‏ في صمْت الأبدِ القاسي حيث الموت دواءْ/‏ استيقظَ داءُ الكوليرا /‏ حقداً يتدفّقُ موْتوراً.

الحزن في القصيدة ناتج عن المرض وأجوائه الرمادية المهلكة، وناتج عن الإحساس بقسوة الموت الوبائي، والتسليم بأنه حل أفضل من الوباء نفسه ومعاناته.

مثال آخر للحزن في بواكير الشعر المعاصر نجده عند صلاح عبد الصبور حين يقول:

يا من يدل خطوتي على طريق الدمعة البريئة/‏ يا من يدل خطوتي على طريق الضحكة البريئة/‏ أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة/‏ لقاء يوم واحد من البكاء.

وكأن الشاعر يعتبر أن الحزن مدرسة تقدم لنا في الحياة كثيراً من التجريب والمهارة.

لكن السؤال الذي مازال يطرح نفسه على معظم الشعر العربي ككل هو: لماذا حظي الحزن بكل هذه المساحة؟، أعتقد أن الأمر يتطلب بحثاً يتقاطع فيه النقد الأدبي مع الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا.

محمدو لحبيب

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"