الأمن الغذائي في مرمى التغير المناخي

03:33 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نيللي كمال الأمير

تزاحم كارثة تغير المناخ قضية الجوع لاحتلال المركز الأول في قائمة المشكلات الأكبر والأكثر تعقيداً أمام عالم اليوم، وليست مصادفة أن نجد ارتباطاً طردياً ما بين زيادة الأولى وتفاقم آثار الثانية أو عدد ضحاياها، ومظاهر الارتباط هنا كثيرة. على سبيل المثال، ستزيد آثار كارثة تغير المناخ من احتمالات حدوث تغير في خرائط ومواقع إنتاج الغذاء في العالم وكيفيتها، كما سيؤدي تغير المناخ أيضاً إلى إضعاف الخصائص الغذائية لبعض المحاصيل ما سيحمل إجمالاً العديد من الدلالات فيما يخص سياسات مكافحة الجوع والفقر. نجد مثلاً أن تغير المناخ سيؤدي إلى جعل المناطق بالقرب من خط الاستواء أكثر دفئاً وجفافاً، ما سيؤدي إلى أن تقل معدلات الإنتاج الزراعي في تلك المناطق التي تعاني الفقر والجوع بالفعل، مما يعني أن تغير المناخ قد يفاقم من عدم المساواة في العالم في ضوء ما توقعته العديد من الدراسات.
تغير المناخ له آثار مباشرة وغير مباشرة على الإنتاجية الزراعية، كتغير أنماط هطول الأمطار والجفاف والفيضانات وإعادة التوزيع الجغرافي للآفات والأمراض، ما يعني تراجع المتاح من الغذاء في عالم تتزايد أعداد سكانه بسرعة وهو ما ينذر بتعاظم تحدي الجوع وليس تراجعه، على الأقل في المدى القصير.
لا نحتاج لسرد مزيد من الحقائق والنتائج، فعلى المستوى التنظيري والمسحي، قدم لنا العلماء معلومات تفصيلية، ووضعوها تحت تصرف صناع القرار بخرائط شارحة لحجم كل كارثة وآثارها.. لدى العالم ومؤسساته بيانات واضحة عن أعداد وأماكن وأعمار ضحايا الجوع أو المتأثرين بتغير المناخ أو ضحايا الكارثتين معاً. وخلال ربع القرن الأخير، اتفق المجتمع الدولي على عدد من الاتفاقيات والتحركات المشتركة لتعزيز موقف «جوعى العالم»، ومن ذلك إعلان روما بشأن الأمن الغذائي العالمي الذي تم الاتفاق عليه في عام 1996، واتبعه إعلان القمة العالمية بشأن الأمن الغذائي سنة 2009، وإعلان الكويت الصادر عن القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية في العام ذاته بخلاف قرارات عدة صادرة عن الأمم المتحدة أو منظمات أخرى كمنظمة المؤتمر الإسلامي.
ورغم جدية العديد من التحركات والسياسات لا تزال آثار تغير المناخ خاصة في الأمن الغذائي شديدة القسوة؛ لوجود ثلاثة عناصر شديدة التشابك وهي: اضطراب الاقتصاد، وتراجع السلم العالمي بتأثير النزاعات المسلّحة، وتغير المناخ، كما ورد بأحد تقارير الأمم المتحدة عن الجوع في العالم.
يبدو إذاً أن الحلول التي تمت تجربتها لا تكفي وأن العالم في حاجة إلى دعوة للإبداع في رسمه للحلول، تماماً مثلما طرحت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة دعوتها للإبداع مخاطبة في ذلك شباب وأطفال العالم في مسابقتها «كن مبدعاً» لتصميم ملصق عن موضوع يوم الأغذية العالمي كجزء من تحركات المنظمة الدولية للقضاء على الجوع في العالم.
وإذا كنا نتحدث عن ثالوث الجوع الذي تمثل أضلاعه تحديات أزمة الاقتصاد والنزاعات المسلّحة وتغيّر المناخ، فإننا نقترح ثالوثاً مواجهاً قد تشكل أضلاعه بداية لعلاج مزدوج للتغير المناخي والجوع معاً، والمثلث هو التصحيح والترسيخ والترشيد.
فأما التصحيح فهو سلسلة إجراءات فورية لوقف نزيف الأخطاء والمخالفات الجاري ارتكابها، بحق البيئة العالمية، وليتحقق ذلك لا بد من الربط بين البعد البيئي والبعد الاقتصادي كمدخل زيادة الإيرادات، كأن تتبنى الدول سياسات تشجيعية للتوسع في استخدام الطاقة النظيفة، أو تضع جداول ملزمة للأصناف المزروعة أو أوقات الصيد.
وأما الترشيد فهو ذو ضرورة لكافة مستهلكات المجتمع، ويفترض أن يصبح منهجاً ومدخلاً لخفض النفقات، لتوسيع دائرة المستفيدين من الموارد ذاتها بعد الارتقاء بمستويات الوعي الفردي ثم الوطني بأهمية الحفاظ على الموارد وحماية النظام البيئي وتوازنه، والترشيد يشمل على سبيل المثال لا الحصر، محاولات خفض الفاقد من الطعام وإعادة استخدامه، وهناك مبادرات مجتمعية في هذا الصدد، نجحت كبنوك الطعام. الترشيد أيضاً يشتمل على التركيز على المحاصيل ذات القيمة الغذائية العالية واستهلاك منخفض للمياه، وقائمة الأمثلة هنا عديدة.
بين ذلك وتلك يأتي الترسيخ لقيم كانت قد تأصلت منذ زمن بعيد ولكننا نجدها-أحياناً- تتراجع في لحظة أو ظرف زمني ما. ومن تلك القيم قيمة «تقدير الطبيعة» و«الانتماء للأرض». ولا يأتي الغرس القيمي قسراً من أعلى إلى أسفل، بل لا بد أن يقدم الأعلى القدوة والمثل بتحمله المسؤولية.. لقد أصبح الحديث عن القيم- في بعض الأحيان للأسف- حديثاً رومانسياً خيالياً أو حديث رفاهية، رغم أن الأمم- كما قال الشاعر- الأخلاق ما بقيت، وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، وعليه نحتاج الترسيخ القيمي بجعله أولوية حقيقية من خلال رفع الوعي بأن «سلامة البيئة» أساس لسلامة الحياة، خاصة في ضوء حقائق مخيفة تشير إلى أن الفاقد من المياه المستهلكة في بعض الدول قد يصل إلى 20%، فلماذا لا نحيي قيمة الحفاظ على المياه «وجعلنا من الماء كل شيء حي». قيمة الجمال، تعد أيضاً واحدة من القيم التي تغذي الروح والنفس، ونحتاج إلى إعادة غرسها من أجل «عالم أجمل وأنقى»، ومرة أخرى بتحقق غرس تلك القيمة نحقق عدداً من العوائد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضاً. فالعديد من الأمم وضعت رؤى كبرى طويلة الأمد للنهوض وشحنت شعوبها للمساهمة في تحقيقها، كرؤية ماليزيا 2020 التي هدفت لوصول ماليزيا للدول المتقدمة سنة 2020، ورؤية كينيا 2030 التي حملت الهدف ذاته ليتحقق مع سنة 2030، وهي خطط امتزج بها البعد البيئي مع الاقتصادي واستهدفت الفئات الأضعف كالجوعى والفقراء، ضمن بقية فئات المجتمع.
وختاماً، في عصر التقدم العلمي المتسارع تطلب الشعوب المزيد ويتطلع الأفراد دائماً للمستقبل الأفضل.. وعلى قدر مشاركة الأفراد في صناعة المستقبل على قدر النجاح في إدارته ومواجهة تحدياته وعلى رأسها تغير المناخ والجوع.. هذه الأزمات الكبرى لا تحتمل الانتظار لتحقيق وعود الحكام، كما لا تحتمل اتكال الأفراد على حكوماتها مكتوفي الأيدي. إن حجم التحديات التي تحملها الكارثتان وتأثيرهما الممتد يدفع بإلحاح شديد إلى تضمين الكل في تحمل المسؤولية، وإن ظلت شارة البداية لدى الدولة التي تقدم المثل في ترشيد استخدام الموارد ومنع ممارسات تدمير البيئة والحرص على أن ثمار عملية التنمية ذات طبيعة شمولية يستفيد منها الكل واعتبار المتضررين من تغير المناخ والجوع لهم الأولوية بل هم فئة «أولى بالرعاية».. وعندما تسير المسارات الثلاثة المقترحة معاً (التصحيح والترشيد والترسيخ) وبشكل علمي سيتعاظم العائد، وإذا كان العائد شاملاً للكل فسيولد الحافز لتحمل المسؤولية للحفاظ على ما تم اكتسابه.. ولا تخبرنا تجارب التنمية الناجحة إلا بمزيد من القصص الملهمة للنجاح في القضاء على الدمار البيئي والفقر. لماذا؟ لأنها أولاً سعت للشمولية في رسم الخطط وتوزيع الثمار، وثانياً لأنها ارتكزت على قيم كان لها قوة نافذة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"