الاحتباس الحراري خطر داهم

04:24 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نيللي كمال الأمير

قُضي الأمر بأن قضية الاحتباس الحراري من أكبر القضايا التي تمثل تهديداً للحياة على سطح الأرض، فلم تعد خطورة تغير المناخ محلاً للجدل بعد موجات التطرف المناخي التي ضربت هنا وهناك وراح على أثرها الآلاف من الضحايا، فأصبح بيناً للجميع أن توازن النظام البيئي العالمي لم يعد بخير. على أن أفضل السبل لمواجهة تلك القضية وما تنطوي عليه من اختلالات بيئية ومناخية لا يزال مثاراً للجدل، ولا يزال معها تقييم ما بُذل من جهود وإجراءات تكيف محلاً للنقاش والطرح المؤيد والمعارض.
يلخص العلماء والمتخصصون تغير المناخ قائلين، إن الغازات المسببة للاحتباس الحراري تحدث بصورة طبيعية، وهي أساس الحياة، عن طريق الحفاظ على جزء من دفء الشمس وعكسها مرة أخرى إلى الفضاء، لتجعل الأرض صالحة للعيش. إلا أن النشاط الصناعي المكثف وممارسات قطع الأشجار المتكررة وبعض الأساليب والمناهج الزراعية غير المدروسة، أدت مجتمعة إلى ارتفاع كميات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الغلاف الجوي. ومع نمو الاقتصادات وأنشطتها يزداد تراكم انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، حتى أصبحت المحيطات أكثر دفئا، وذابت كميات من الثلوج والجليد، وارتفع مستوى سطح البحر، حتى أن متوسط درجات الحرارة العالمية قد ارتفع بمقدار 0.85 درجة مئوية خلال الفترة من عام 1880 وحتى عام 2012، وهو مؤشر إذا استمر فإنه كفيل بتهديد استمرار الحياة على سطح الأرض.
وفي مواجهة تلك التداعيات التي لا يمكن وصفها إلا بالخطيرة وجدنا أجهزة الأمم المتحدة تقوم بتعيين «الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ» لتوفير المعلومات العلمية وهو الفريق الذي بحث في علم تغير المناخ، وتوصل إلى نتيجة قاطعة إلى أن تغير المناخ هو حقيقة واقعة وأن الأنشطة البشرية هي السبب الرئيسي في ذلك. ويعتبر «الفريق» جزءا من جهود دولية ترعاها المنظمة الأممية، اشتملت أيضا على عقد اجتماعات دورية وتوقيع اتفاقيات دولية كان آخرها اتفاقية باريس للمناخ والموقعة في عام 2015 والتي تعد الأهم على الإطلاق فيما يتعلق بالإجراءات الدولية لمواجهة الاحتباس الحراري.
وفقا للمحتوى الرسمي لاتفاقية باريس، فإن مسؤولية التصدي لتحدي تغير المناخ مسؤولية مشتركة بين الدول، لكنها تتفاوت بحسب قدرات كل دولة. والهدف من الاتفاقية احتواء ارتفاع معدل درجات الحرارة دون الدرجتين المئويتين مقارنة بمستويات درجات الحرارة في الفترة السابقة على الثورة الصناعية، ومواصلة تنفيذ الخطوات الرامية إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية، ولذلك اشتملت الاتفاقية على أن تراجع الدول التزاماتها كل خمس سنوات، وعليها أن تسجّل كل مساهمة من المساهمات المحدّدة وطنيا تقدما مقارنة بالمساهمة السابقة. وقد وقّعت مئة وخمس وتسعون دولة على اتفاق باريس بشأن المناخ ودخل حيّز النفاذ في نوفمبر 2016.
ويظل التساؤل: هل تعتبر اتفاقية باريس للمناخ كافية للتصدي لخطر بحجم الاحتباس الحراري الذي يهدد البشرية جمعاء؟ هنا يمكننا القول إنه مع أهمية الاتفاق خاصة مع ما يحمله من صفة إلزامية للمرة الأولى في تاريخ المعاهدات البيئية الدولية، إلا أنه لا يزال يفتقد أركاناً ثلاثة: أولا: عدم شموليته زمانا ومكانا، ثانيا: التطورات الطبيعية ذات المعدل المتسارع، ثالثا: غياب مسؤولية الفرد في توزيع مهام مواجهة مخاطر الاحتباس الحراري عالميا.
فأما شموليتها مكاناً فيكفي إعلان الإدارة الأمريكية في يونيو الماضي أنها ستنسحب من اتفاقية باريس التي تفاوضت عليها نحو مئتي دولة وطلب الإدارة من الكونجرس خفض الميزانيات المخصصة للأبحاث المرتبطة بالمناخ، ليأتي على صفة الاتفاقية «العالمية»، حتى إن قامت دول- إثر التحرك الأمريكي- بتنظيم قمم بديلة مثل «قمة الكوكب الواحد» التي دعت إليها فرنسا لمناقشة مسألة التمويل الذي لا يزال غير كاف على الإطلاق لمحاربة الاحتباس الحراري.
وأما زماناً، فمعلوم أن الإجراءات التطبيقية التي تشتمل عليها الاتفاقية ستبدأ في عام 2020، بينما قد يستدعي الأمر التحرك قبل ذلك.
مما يصعب من فرضية حل اتفاقية باريس- منفردة- لمشكلة الاحتباس الحراري أيضا، أنه وبحسب مقال لمجلة ناتشير جيوساينس، فإن السرعة غير المتوقعة لذوبان الجليد الأزلي تزيد من تراكم غازات الاحتباس الحراري، ما يجعل تنفيذ اتفاق باريس بشأن المناخ صعبا جدا، فذوبان الجليد سيؤدي لتحرر كمية هائلة من المواد العضوية الموجودة في الأرض المتجمدة التي تراكمت منذ ملايين السنين. وهذه المواد نباتية وحيوانية، وستبدأ بالتحلل والتعفن وبالتالي تحرر كميات كبيرة من غاز الميثان، إضافة إلى الحرائق، وكل هذا يسرع في ارتفاع درجات حرارة الأرض، ويزيد الكارثة تعقيدا.
وأما ثالث الأركان التي كان يفترض أن تتضمنها اتفاقية باريس فهي التركيز على دور الفرد ومسؤوليته تجاه البيئة العالمية، فكون الأمم المتحدة منظمة أممية بالأساس فقد ركزت على دور الحكومات، ولكن يمكن للأمم المتحدة أيضا تعزيز دور الفرد في مواجهة الاحتباس الحراري ولا سيما أن قيم الديمقراطية محورها دور الفرد ما بين حقوقه وواجباته. وكارثة بحجم تغير المناخ تحتاج مؤازرة الأطراف جميعها ومنها الفرد بطبيعة الحال، وتحتوي اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ بالفعل على عدد من الآليات التي يجدر بالمنظمة الأممية التركيز عليها بصورة أكبر، ومن تلك الآليات: مؤتمر الشباب، وهو مبادرة مجتمعية تسمح للشباب في جميع أنحاء العالم بالعمل سنويا معا قبل انعقاد مؤتمر الأطراف الخاصة باتفاقية الأمم المتحدة لمواجهة تغير المناخ. والصندوق الأخضر للمناخ، وهو الآلية المالية التي تعتمدها الأمم المتحدة لتحويل الأموال من البلدان الأكثر تقدما إلى البلدان الأكثر احتياجا اقتصاديا، لتنفيذ مشاريع لمكافحة آثار تغير المناخ. ومن الآليات كذلك ضريبة الكربون التي تفرض على الوقود الأحفوري مثل النفط والفحم، وتتماشى نسبة الضريبة مع محتوى الكربون في الوقود لتثبيط الانبعاثات والحد والسيطرة على مخاطر ظاهرة الاحتباس الحراري. وأخيرا، فهناك آلية تحتاج لرفع الوعي العالمي العام بشأنها وهي «وسائل النقل الناعمة»، وتعني بنمط التنقل الذي لا يستهلك طاقة ولا يتسبب في انبعاثات غازات الدفيئة، كالمشي وركوب الدراجات الهوائية والتزلج أو التشارك في السيارات.
لا تتيح الحياة الواقعية خاصية «تراجع» التي تمنحها إياها لوحة مفاتيح أجهزة الحاسب الآلي التي صنعناها، فلا يمكن العودة للوراء لإلغاء التقدم الصناعي وما خلفه من آثار أتت على التوازن البيئي العالمي، لكن يمكننا العمل وإجراء أبحاث تنتج تطورا تقنيا، يخلق حلولا للاحتباس الحراري كترشيد استهلاك الطاقة والعمل والتحرك «افتراضياً» دون التنقل.. وبالتكامل مع ذلك يتم تبني قوانين ذات صفة إلزامية تجرم السلوكيات التي ترتكب بحق البيئة، وفى كل الأحوال لا بد أن ترسم تلك التطورات دور الفرد ومسؤوليته تجاه الحفاظ على البيئة، انطلاقا من أن مواجهة تداعيات تغير المناخ في العالم هي مسؤولية الجميع، ولا يستثنى منها أحد، أو هكذا يُفترض.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"