البؤس..تجربة فلسفية

03:44 صباحا
قراءة 5 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

عاش الكثير من الفلاسفة الكبار في فقر مدقع؛ لكن ذلك الأمر لم يحل دون القيام بواجبهم الفكري والفلسفي، فكان أن أغنوا العالم بأفكارهم ومفاهيمهم التي مازال العالم يتعاطى معها، ومن المفارقة أن عائدات توزيع مؤلفاتهم اليوم تساوي ثروات هائلة، وربما يكون الفقر في حد ذاته يمثل دافعاً للتأمل في الحياة والوجود بالنسبة للكثير من الفلاسفة؛ بل إن بعض المذاهب الفلسفية قامت في الأساس على نبذ الغنى والمال، وعاش مفكروها عيشة الشظف على نحو ما كان يفعل «الكلبيون»، وإلى حد ما «الرواقيون».
ضمن القصص الشهيرة التي يحكيها لنا التاريخ عن الفلاسفة الفقراء، حكاية الفيلسوف «ديوجين»، «نحو 421 - 323 ق. م» وهو فيلسوف يوناني، ويعد من أبرز ممثلي المدرسة الكلبيّة، وكانت فلسفة ديوجين، الذي عاصر أفلاطون، تقوم على أن غاية الحياة هي السعادة؛ وذلك أمر يتحقق عندما يعيش الناس منسجمين مع الطبيعة؛ وذلك دفع ديوجين إلى العيش كما الحيوانات الهائمة على الأرض، يعيش حياة المتشردين والمتسولين، وأمضى أكثر من نصف عمره داخل أحد البراميل، وظل يجوب شوارع المدينة وهو حافي القديمين، يرتدي خرقاً بالية، معتمداً على عصاه، ومن المفارقات أنه كان يحمل في تجواله وسط المدينة مصباحاً وكان ذلك الأمر مثار سخرية بين المارة، فسأله أحدهم يوماً: «لما تحمل مصباحاً ونور الشمس يعم المكان»، فكان رد ديوجين: «أنا أبحث عن الإنسان، ظللت أبحث عنه بين الرجال الكثر؛ لكنني لم أصادفه بعد»، ومن المصادفة أن هذا المصباح نال هو الآخر حظه الكبير من الشهرة، فقد عرف بين قرّاء الفلسفة ب«مصباح ديوجين»، والذي يرمز للحكمة، ومن القصص الشهيرة أن الإسكندر الأكبر جاء إلى أثينا، ومر بديوجين بينما كان قابعاً في برميله، فدار بينهما نقاش، فسأله إن كان يستطيع مساعدته، فرد ديوجين: «اذهب فأنت تحجب عني نور الشمس»، ولكن الإسكندر لم يغضب؛ بل قال مقولته الشهيرة: «هذا البرميل مملوء بالحكمة، ولو لم أكن الإسكندر الأكبر؛ لتمنيت أن أكون ديوجين».
يعد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد من أشهر الفلاسفة، الذين مازال صداهم يتردد في العالم كله، فهو رائد الوجودية، ومازال العديد من الفلاسفة في هذا العصر ينهلون من نبعه الصافي، عارض هيجل ونظامه الفلسفي الذي يفسر العالم موضوعياً، وبشكل جاف، ليتخذ موقفاً يكون فيه أساس الفلسفة هو الفرد، وليس النظام أو التاريخ الموضوعي أو العالم الخارجي المعزول عن ذاتية الأفراد، ولم يكن يهتم بالفلسفة وحدها؛ بل وكذلك بالمسرح والموسيقى وبخاصة موسيقى موزار.
غير أن الرجل عاش حياة شديدة القسوة، فعلى الرغم من أنه الطفل السابع في أسرة ميسورة الحال؛ لكن ذلك الأمر تبدل تماماً؛ ولذلك علاقة بوالده ميكائيل بيديرسين، الذي كان يعمل راعياً في مزرعة تُدعى «كيركيغارد»؛ ولذلك لقب اسمه بها بعدئذ، وعانى الفقر والعوز في البداية، فأصابه ذلك الأمر بضجر عظيم، فأخذ يشكك في وجود العدالة؛ لكن الرجل قد عرف الشهرة والعزّ في التجارة لاحقاً، ثم تزوج ولكن قرينته ماتت من دون أن تترك له أي أبناء وراءها، ليتزوج مرة ثانية من خادمته وعشيقته؛ لتتحسن أوضاعه المادية، وخلال عشرين سنة أصبح ميكائيل كيركيغارد من أغنى الأغنياء كل ذلك؛ بفضل الحظ الذي ابتسم له أخيراً، لكن القدر كان له بالمرصاد؛ حيث مات جميع أبنائه ماعدا الأكبر والأصغر وهذا الأخير هو سورين؛ حيث كان يبلغ من العمر ستة أعوام، فبدأ الخوف يتسلل إلى قلب الوالد من أن يفقد ابنيه، وبدأ يشعر بأن هنالك أحداً يريد الانتقام منه؛ لمواقفه السابقة المشككة في الدين، فأراد أن يُكفر عن ذلك؛ بتربية ابنيه تربية دينية قاسية.
فكان يشق عليهما، ويحبسهما داخل غرفة، فإذا أرادا الذهاب إلى حديقة، كان يطلب منهما أن يغلقا أعينهما ويتخيلا وجود الحديقة، كان الوالد متشدداً في خوفه على الولدين، فقد ظن أن الأقدار تتربص بهما، لتختطفهما؛ انتقاماً منه، وكان لتلك التربية أثرها العميق في حياة فيلسوفنا الكبير لم يتخلص منها إلا بعد وفاة والده، وظلت آثارها باقية، وربما انعكست في مواقفه وفلسفته، فقد كانت المشكلة الأكبر أن سورين قد ظن أن خطيئة والده ما زالت تلاحقه، وراوده الإحساس بضرورة أن أن يُكفر عنها أو يتحمل مسؤوليتها عنه بعد موته، وعاد فيلسوفنا إلى حياة الفقر وشظف العيش، وصار انطوائياً حزيناً منغلقاً على نفسه؛ بعد أن كان يحب المسرح والحياة، والاجتماعات الطلابية في جامعة كوبنهاجن. وراح يدير ظهره للعالم أكثر فأكثر، ويبحث عن سبيل؛ لإنقاذ روحه من الخطيئة التي ارتكبها والده يوماً ما.
عاش الفيلسوف الكبير كارل ماركس (5 مايو/أيار 1818 - 14 مارس/آذار 1883). مرحلة بؤس وفقر مدقع، في عالم منعزل شديد الغرابة والغموض، ولا يخلو من المفارقات والسخرية السوداء، وكانت تلك الفترة تحديداً؛ عندما بدأ ماركس بكتابة سفره الأشهر «رأس المال» تلك الكتابة التي سلبت ماركس جل حياته، ولم يشهد إلا طباعة المجلد الأول بعد عقدين من البحث والكتابة ووعود النشر، ثم جمع رفيقه وداعمه الأول إنجلز الأجزاء الثلاثة الأخرى من مسودات ماركس وأوراقه بعد موته.
ظل ماركس يعيش في تلك الفترة ينتظر الأموال البسيطة التي يبعث بها صديقه ورفيقه فردريك أنجلس والتي كانت تتأخر لأسباب عديدة، فلا تجد أسرة الفيلسوف الكبير ما يشبع البطون ويوفر الدواء، خاصة أن الأسرة كانت تعيش في شقة مرتفعة الرطوبة، وكانت زوجته «جيني» تصف فقره بأنهم لم يجدوا كفناً لأبنتهم عندما ماتت، وقد طردوا من المنزل؛ لأنهم لا يمتلكون أجرته.
ومن الشهادات الحزينة التي توصف فقر ماركس في تلك الفترة، ما ذكره أحد مخبري الشرطة البروسية عندما دخل شقة ماركس في برلين، فقال: «ماركس يعيش حياة مثقف بوهيمي حقيقي؛ بل إنه ولشدة الفاقة والبؤس، كان يعيش لأيام هو وزوجته إلى جانب أبنائه على أكل الخبز والبطاطا، في الغرفتين اللتين تشكلان المأوى الوحيد لهم»، وقد وردت شكوى ماركس من الفقر في الرسائل التي كان يبعثها إلى أنجلس، فقد ذكر له ذات مرة في رسالة أنه لا يستطيع الخروج من البيت؛ حيث إنه رهن معاطفه ليسدد بعض الديون، وقد قادت تلك الحياة الرهيبة إلى وفاة ثلاثة من أبنائه وهم صغار؛ بسبب الضنك والبؤس، وقد بلغ بماركس الحزن عند وفاة ابنه الثالث حد أنه كاد أن يرمي نفسه في قبر صبيه، وذكر ماركس واصفاً تلك الأيام التي قضاها في كتابة رأس المال: «لا أحسب أن أحداً قط قد كتب عن النقود وجيوبه خاوية إلى هذا الحد».
ورغم الفقر أهدى ماركس الفقراء في كل العالم نظرية ثورية تبحث في قيام العدالة الاجتماعية، وصرخ صرخته الشهيرة: «ليس المهم اكتشاف العالم؛ بل تغييره».
ويخبرنا التاريخ كذلك بالكثير من الفلاسفة الذين عاشوا تحت خط الفقر؛ لكنهم شغلوا الدنيا بثراء منتجاتهم، وكمثال على ذلك، وهنا تبدو مفارقة؛ فإن الفيلسوف جان جاك روسو الذي يعد من أعمدة الفكر البرجوازي ونظرية العقد الاجتماعي، وأحد أكبر الفلاسفة في عصر التنوير، كان يعيش فقراً مدقعاً، وفي العالم العربي هنالك فلاسفة اشتهروا بحياة الفقر، ربما يكون على رأسهم الجاحظ وأبو حيان التوحيدي، رغم مكانتهما الكبيرة في الأدب والفلسفة العربية، كذلك هنالك من المنظرين من استهوتهم وألهمتهم عيشة الفقر؛ مثل: المهاتما غاندي صاحب الثورة السلمية، وفلسفة اللا عنف، والعصيان المدني، وهي الحياة التي أعجبت أيضاً الروسي تولستوي، الذي حاول أن يتخلص من ثروته في آخر حياته ويعيش حياة الفلاحين حتى هرب من بيته ومات في محطة قطار، وهنالك جورج برنارد شو، وتشارلز ديكنز الذي بدد أمواله؛ لكي يعيش حياة الفقر والفقراء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"