التراث.. قاعدة زايد في بناء المستقبل

رؤى المؤسس صورة كاملة عن حياة الآباء والأجداد
01:45 صباحا
قراءة 7 دقائق
يونس ناصر

«من ليس له ماضٍ، ليس له حاضر ولا مستقبل»، بهذه المقولة المركّزة الشاملة الواضحة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، تجتمع الأزمنة الثلاثة على سطح واحد، بتسلسل يتجاور، ويتنافذ من دون انقطاع، أو فراغ، أو مساحات خالية بما يؤدي إلى خلل في التواصل. ومن هذا القبس القيادي نستضيء في مقاربة التراث في الفكر النيّر للشيخ زايد، باعتباره عمقاً ومرتكزاً ذا أهمية قصوى للحاضر والمستقبل.
الماضي، كما هو معروف، كل ما حدث قبل الزمن الحاضر، والتراث، باعتباره جزءاً من الماضي، يختص بشعب أو أمة، أو مجتمع بعينه، استناداً إلى الجذر اللغوي «ورث»، والإرث يختص بالأجيال اللاحقة للإفادة منه، ومسؤوليتها عن صيانته والحفاظ عليه، بمعنى ما يتركه الأسلاف للأحفاد، بوجهيه التراث الشفاهي، أو المحكي، والتراث المادي، وكذلك سِيَر الشخصيات والأحداث والوقائع التي مرت بها الأمة في الماضي.
واحتشدت رؤى الشيخ زايد بالكثير من تفاصيل التراث لترسم صورة كاملة عن حياة الآباء والأجداد، وهي صورة ناطقة بما امتلأت به من الأفعال والأقوال، وعميقة بدلالاتها وخزينها من التجارب والدروس والحِكَم. ومن المعروف أن الحاضر هو امتداد زمني أفقي للماضي، لكن مشاغله تختلف باختلاف التطور وازدياد حاجات الناس المختلفة أيضاً تبعاً لذلك، ما يفرض تراكماً زمنياً عمودياً له تحدياته وصعوباته، كناتج طبيعي لكل تطور. والاستمرار يحتاج إلى التطور، والتطور يؤكد الاستمرار، وهي معادلة تعني، بطرفيها المتلازمَين، الوجود الإنساني كله، وهذا ما يحققه التراث للمجتمع عندما تُستنبط دروسه وتُستلهم خبراته بوعي ورؤية ثاقبة، وذلك ما يتجسّد بعمق وتركيز في مقولة الشيخ زايد: «إن الإلمام بالتراث ينير الأفكار وينير طريق الحياة».
وهذه خلاصة مضيئة من فكر قائد شهد بعض الأحداث، وكان شاهد عيان عليها، وأسهم في بعض منها، وصنع بعضها، وعاش جانباً منها، وسمع عن بعض منها من الآباء والأجداد، بما شكّل لديه خبرات ثرّة وثريّة أضاء عليها من تكوينه ووعيه، فتجوهرت حكمة قيادية فريدة تدرك أهمية التراث في حياة الشعوب والأمم، باعتباره محركاً أساسياً من محركات العقل والفكر الإنسانيَين، للتعامل مع مستجدات، وهي كثيرة بالتأكيد، تحتاج إلى خلاصات غنية سابقة، ليس من منطلق التطابق أو التماثل والتشابه، فذلك غير ممكن طبعاً، ولكن من حيث الكيفية التي يتوجه بها العقل والفكر إلى حل المعضلات المعاصرة، لأنها تشكل دافعاً قوياً للاستمرار في ظروف وإمكانات هي أفضل بما لا يقاس مع ظروف وإمكانات المجتمع والضغوط القاسية التي تعرض لها في الماضي واستطاع حلها والتغلب عليها.
من هذه الدلالات الغنية في فكر الشيخ زايد يتبلور على نحو واضح وعميق أن التراث هو ذاكرة الأمة، بمعنى الاكتناز غير القابل للاندثار، وإكسير البقاء وروح الاستمرار، وهذا الاستلهام للتراث الحي، وبقاؤه نابضاً، يمثلان رافعة ودافعة لمسيرة البناء الراسخ في الحاضر، عندما تكون مجسّات المجتمع من الوعي والحساسية العالية بمكان، بحيث تستطيع تلمّس ما يعينها من مثابات أثبتت نجاعتها في وقوف المجتمع على أرضية صلبة، مضاءة ومعلَّمة بفنارات تنير الحاضر وتكشف وتستشرف الآتي، ليس تلقيناً نظرياً للحفظ، يضاف إلى الثقافة العامة، إنما تشخيص سليم قابل للتطبيق مستنداً إلى هذا التشخيص العلمي والموضوعي، حيث يؤكد الشيخ زايد، رحمه الله،: «على شعبنا ألا ينسى ماضيه، وأسلافه كيف عاشوا، وعلى ماذا اعتمدوا في حياتهم، وكلما أحسّ الناس بماضيهم أكثر، وعرفوا تراثهم أصبحوا أكثر اهتماماً ببلادهم، وأكثر استعداداً للدفاع عنها».
ومن هذا المنظور الصافي في رؤية الشيخ زايد فإن التراث يشكّل هوية المجتمع، ليس تعريفاً به فقط، بالتعبير المجازي، بل لكونه وجوداً متحققاً بإنجازات مازالت شاخصة تجعله جديراً بأن يمتد عبر الأجيال وصولاً إلى الحاضر، وباعتباره خلاصة سيكولوجية وسلوكية لإيقاع حياة كاملة، مازالت تجد حيزها المؤثر في اللُحمة الاجتماعية تجمعها وتضخ فيها طاقة مضافة، وبهذا الفهم الواعي أخرج الشيخ زايد التراث من صمت بطون الكتب وأغلفة الدراسات وتوصيات وهوامش المحاضرات والمؤتمرات، وأنزله من جدران المتاحف والمكتبات، مع الاحتفاظ بأهميتها الأرشيفية التدوينية، إلى الواقع الحيّ الذي تشكّل منه سابقاً ولا يزال باستطاعته العيش فيه والتعايش معه، في المساحات التي تتناسب مع كل تفصيل من تفاصيله، ثم ليعاد حفظ التراث بما وصل إليه العلم والتكنولوجيا في عصرنا الحالي، بوسائل أكثر نجاعة وجمالية، تصونه من التلف والتشويه، وتبقيه عند الدرجة التي وصل بها إلى الحاضر. وهنا تأخذ الهوية معنى الاستحقاق في الحضور في الزمان، والمكانة في الذاكرة الإنسانية، وهو استحقاق يفرضه تنوع التراث الإماراتي وخصوصيته، استلهاماً لمقولته، طيب الله ثراه: «لقد ترك لنا الأسلاف من أجدادنا الكثير من التراث الشعبي الذي يحق لنا أن نفخر به ونحافظ عليه ونطوره ليبقى ذخراً لهذا الوطن وللأجيال القادمة».
من هذه المصفوفة العميقة والشفافة من بعض تفاصيل ومقولات الشيخ زايد في التراث وعنه، تتضح الركائز والأسس الراسخة التي بناها، رحمه الله، من أجل استلهام التراث لإرساء أسس المستقبل، للبناء عليها لاحقاً، انطلاقاً من قدرته القيادية الفذة على توصيل الماضي بالآتي، مع إدراكه أن الماضي والمستقبل لا يلتقيان معاً بالتتابع، ولكن يجمع بينهما الحاضر، فما ينضح من التراث يمر من خلال مختبر الحاضر أولاً، ثم يستكمل شروطه ليعبر إلى المستقبل، بما لا يثلم من مكوناته وملامحه. وهكذا تتسلسل الأزمنة الثلاثة، وتتفاعل بحيوية مع احتفاظ كل منها بخصوصيته وشروطه، أي يبقى كل زمن قائماً بذاته، ولكن ليس لذاته فقط، بل ينفتح على الآخر بأواصر متجانسة ومتواصلة، ما يشكّل تناغماً تاريخياً تنصهر فيه الأزمنة وتنتج مناخات متنافذة تساعد على البناء والإبداع والتقدم والتطور في مجالات الحياة كافة، بانسيابية تعبّر بعمق وموضوعية عن مكونات الشخصية النفسية والسلوكية معاً. ووجد هذا التعبير تجسيده بأرقى المعاني وأسماها في المكوّنات الاستثنائية لشخصية الشيخ زايد، وهذا الاهتمام بالماضي في فكره، رحمه الله، ليس إعجاباً محضاً، على ضرورة ووجوب الاعتزاز به، إنما هو إعادة قراءته واستحضاره برؤية معاصرة، وترتيب سياقاته وعناصره ونقاطه المضيئة، في سلسلة متعاضدة متواصلة من دون انقطاع، فمثلما كان يحرص على بناء جيل جديد له القدرة على تحمّل مسؤولية وتأدية واجبه في تطوير بناء الوطن وتقدمه، في العالم المعاصر، مع احتفاظه بعاداته وتقاليده وثوابته الأصيلة، فإنه قبل ذلك تحمّل المسؤولية الاستثنائية في بناء الاتحاد وقيام دولة الإمارات.
ومع الإقرار باتساع الأحلام والأمنيات، وشحّ الإمكانات، وصعوبة توفيرها بالحجم والأثر المطلوبين، آنذاك، إلا أن عزيمة وإصرار الشيخ زايد على تحقيق كل تلك الآمال، وجعلها حقيقة معيشة على أرض الواقع، أحدثا الفرق الذي ارتقى إلى أعلى قمم التاريخ، وهو مستوى فريد قلّ أن نجد له نظيراً من قبل، مثلما أصبح كذلك نموذجاً فريداً يقتدى، حتى بالنسبة إلى بعض المجتمعات التي قطعت أشواطاً بعيدة في مضمار التطور.
وهكذا جمع الشيخ زايد بعبقريته القيادية ممكنات الأزمنة الثلاثة، والتراث والمعاصرة، في امتزاج وتفاعل، وكان الحاضر هو الامتحان والبرهان والمحك الأساسي الذي هيأ ممكنات الانسجام وتوجيهها إلى بلوغ الأهداف الغالية السامية، يقول رحمه الله، «لقد بدأنا في دولة الإمارات من الصفر، وفي رأيي أننا قد أشرفنا على اللحاق بإخواننا الذين سبقونا منذ سنوات، وكان عملنا مركزاً حالياً على تطوير وتنمية قوانا البشرية وعلى الاهتمام بالخدمات الاجتماعية في مجال التعليم والصحة وإعداد الأجيال التي تتحمّل مسؤولية المستقبل، فنحن نهتم بالتحضير للمستقبل لتذليل كل العقبات مهما كانت»، وهي عقبات كانت من الصعوبة بمكان، بحيث كانت تبدو عصية على التغلب عليها، بل واستحالة ذلك، وما يعضد هذا التشخيص أن الأسئلة التي تحمل في طياتها مشاعر الإعجاب والدهشة، مازالت حاضرة عن كيفية استطاعة وقدرة أبناء الإمارات على مجرد البقاء والعيش قبل الاتحاد، في ظل ظروف طبيعية وجغرافية صعبة جداً، وهي من القسوة بحيث لا تترك مجالاً للإنسان كي يفكر إلا بيومه وتوفير ما يلبي احتياجات حياته البسيطة، مع شح الماء ولا وجود للكهرباء والطاقة والمواصلات والاتصالات، وغيرها الكثير من المستلزمات الأساسية.
وهنا تبرز أكثر رسوخاً ووضوحاً، أهمية التراث الأصيل في فكر الشيخ زايد، ثقافة واطلاعاً وفهماً واستلهاماً، وأثراً وتأثيراً، في الجيل الحالي، والأجيال اللاحقة، بما يحقق توازناً فكرياً وعملياً وسيكولوجياً بين أطياف المجتمع كافة، وكذلك في تركيبته وشرائحه، بما يزيد من قوتها وتلاحمها، ورصانة نسيجها الاجتماعي، ويطوّر العلاقات الإنتاجية، نظرياً وتطبيقاً، لأنها تنهل من الأصالة، وتبني الحاضر بأصالة، وتؤسس لمستقبل يرفل بالمعاصرة والأصالة، وقاد السفينة بأمان بين أمواج متلاطمة من الأفكار والتوجهات السلبية المضادة التي تنادي بنهاية التاريخ وإلغاء التراث الإنساني كله، وتشكّل بمجموعها ما يشبه أداء ماكينة خلط وعصر المواد، بحيث تضيع خصوصية كل مادة وتكون النتيجة مزيجاً وخليطاً غير ذي خصوصية أيضاً. وكان من نتائج إعادة إحياء التراث في الإمارات أن اعتمدت المنظمات العالمية والإقليمية المعنية بالتراث العديد من الأماكن في الإمارات جزءاً حيّاً من التراث الإنساني.
وبذلك تكتمل دائرة الأزمنة الثلاثة (الماضي/‏‏ الحاضر/‏‏ المستقبل) في فكر الشيخ زايد، ممتزجة بعلاقة جدلية متناغمة في إيقاعها مع البناء الحضاري الإنساني القيمي الذي أرسى أسسه، رحمه الله، حتى غدت الإمارات الأولى عالمياً في التماسك الاجتماعي ويعيش على أرضها الطيبة، وبين أبنائها الأصلاء، أكثر من 200 جنسية مختلفة الثقافة والتراث، تمارس عاداتها وتقاليدها وطقوسها بحرية تامة وأمن وأمان، واحترام وتقدير متبادلين.

نظرة ثاقبة

مسيرة بناء الاتحاد كانت شاقة ومعقدة، وانطلق فيها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، من رؤية واضحة وإدراك عميق لأهمية التراث المشترك والمتطابق بين الإمارات السبع في توفير المناخ المناسب والأرضية الصلبة لإعادة تشكيل الحاضر أولاً، من خلال تأسيس الاتحاد، وتجميع وصهر كل الجهود للانطلاق إلى تحقيق الأهداف العظيمة، وتحقيق أحلام الشعب وطموحاته في غدٍ مشرق يليق به. وهي نظرة ثاقبة لما يمور به التراث من إمكانات عظيمة وخلّاقة ظلت كامنة ومحتفظة بقدرتها على الإشعاع في لحظة الكشف الواعي عنها، وفي تضاعيف هذا الإدراك يكمن المستقبل، باعتباره محركاً مهماً في عملية النهوض والبناء. وتزوّد، رحمه الله، بعمق ونقاء من معين التراث وغاص فيه كما يغوص الصياد على اللؤلؤ الثمين، واستلهم أصالة التراث وروحه، مضيفاً إليه أصفى الأفكار والآراء معاصرة وحداثة، بنفس القدر من السعة والتجذّر.

عشق الصحراء

انطلق الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، من قسوة الصحراء، وتحمّل مسؤولية بناء شعب ووطن، ليعود إليها بعدما سطّر مجداً خالداً، ولكن ليستريح فيها قليلاً هذه المرة. استراحة القائد الباني في منابع التراث الصافية النقية، تزوّداً واستعداداً لمرحلة بناء أعلى وأبعد، يقول رحمه الله، «إنني أعشق الصحراء، وكلما أحسست ببعض التعب ذهبت إليها لأسترد نشاطي وحيويتي، حيث ألتقي بإخواني البدو الذين أحبهم من كل قلبي، لأن أفكارهم مازالت صافية ونقية، إنهم مازالوا يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم التي تنبع من الأصالة العربية وتعاليم ديننا الحنيف، وأنا أشجعهم على التمسك بهذه العادات لتظل أفكارهم صافية ونقية».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"