الجزائر تعلن الحرب على الفساد.. لماذا؟

03:41 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد عز العرب *

يعد ملف محاربة الفساد واجتثاث رموزه إحدى القضايا الرئيسية خلال إدارة المرحلة الانتقالية في الجزائر، بعد سقوط حكم بوتفليقة، أو من يطلق عليهم في وسائل الإعلام المحلية «العصابة» التي استطاعت أن تنسج شبكة من علاقات الفساد على مدى عقدين، حيث برزت خلال الأسابيع القليلة حملة اعتقالات وتجميد أموال والتحفظ على ممتلكات وملاحقات قضائية، لإعادة الثقة بالمنظومة القانونية وأجهزة العدالة، والحد من نفوذ رموز النظام السابق، وإنعاش خزانة الدولة بالأموال المنهوبة في ظل أوضاع اقتصادية ومالية صعبة.

ثمة مجموعة من المؤشرات التي تعكس توجه السلطة القائمة بإدارة المرحلة الانتقالية على محاربة الفساد، على النحو التالي:
1- صدور تصريحات رسمية مناهضة لشبكات الفساد، التي حققت أموالاً طائلة من بقاء أفرادها في مناصب مختلفة لفترة طويلة، وتنحي بوتفليقة أسهم في رفع الحماية عنها. فقد أعلن الفريق أحمد قايد صالح؛ رئيس أركان الجيش، في 30 إبريل 2019، أن وزارته تملك معلومات مؤكدة؛ تم تسليمها لمرفق العدالة، حول عدة ملفات فساد وصفها ب«الثقيلة»، مؤكداً اعتزامه تطهير البلاد من الفساد والمفسدين، مشيراً إلى أن «عملية محاربة الفساد في بدايتها، وأن العدالة قد تحررت من كل الضغوطات والإملاءات بعيداً عن الانتقائية والظرفية، ونحن في الجيش كنا سباقين في محاربته».
2- اتساع دائرة الملاحقات القضائية، الخاصة بالفساد ونهب المال العام، والتي شملت شخصيات ذات ثقل كبير، ومنها الرئيس أول (رئيس الوزراء) أحمد أويحيى، ومحمد لوكال، محافظ البنك المركزي السابق، ووزير المالية في حكومة نور الدين بدوي، واللواء عبد الغني هامل، القائد السابق للحرس الجمهوري، والمدير السابق للشرطة، ومدير الأمن الوطني السابق، ووزير النفط الأسبق شكيب خليل ورجال الأعمال علي حداد، وأسعد ربراب، وغيرهم. كما أصدر قائد سلاح الدرك الوطني العميد غالي بلقصير في 30 إبريل الماضي، تعليمات جديدة ومشددة لمجموع قيادات الدرك على مستوى الجمهورية، تتعلق بالحملة على الفساد. أضف إلى أن رئيس الدولة عبد القادر بن صالح أنهى في 4 مايو الجاري مهام رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد محمد سبايبي.
3- اعتقال (إيقاف) شخصيات نافذة داخل النظام الجزائري بتهمة التآمر على الحراك الشعبي المعادي للنظام و«ضرب سمعة الجيش»، على نحو ما قامت به أجهزة الأمن الداخلي في 4 مايو الجاري إزاء المستشار السابق في رئاسة الجمهورية سعيد بوتفليقة ومديرين سابقين للاستخبارات اللواء بشير طرطاق ومحمد مدين المعروف ب«الجنرال توفيق». وقد سبق أن وجه قايد صالح التهمتان إلى سعيد بوتفليقة ومدين قبل أكثر من أسبوعين.
4- اتخاذ إجراءات احترازية ضد هروب مسؤولي النظام السابق خارج البلاد. فقد وضعت السلطات الجزائرية مبكراً، قائمة للممنوعين من السفر، بالتوازي مع إجراءات تقديم الرئيس بوتفليقة استقالته، شملت وزراء ومسؤولين سابقين وحزبيين ورجال أعمال بارزين، كما أصدرت هيئة الطيران المدني، قراراً بمنع إقلاع أو نزول الطائرات الخاصة في مطارات البلاد، خشية هروب رموز النظام السابق والمحسوبين على الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس بوتفليقة.
هناك دوافع عديدة تفسر هذا السلوك للسلطات الجزائرية لمحاربة الفساد «من أعلى»، والتي تتمثل في ثلاثة رئيسية:
* الدافع الأول تعزيز رأس المال السياسي والاجتماعي مع قطاعات الرأي العام والنخبة الثائرة القائم على الثقة وتبديد مخاوف الكثيرين من نوايا المؤسسة العسكرية في انتقال السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة والتخلص من إرث النظام السابق، الأمر الذي يفرض على السلطة «الانتقالية» اتخاذ إجراءات عملية تجاه ملف شائك مثل الفساد، لا سيما أن منظمة الشفافية الدولية تصنف الجزائر باعتبارها واحدة من الدول «عالية الفساد»، حيث تحتل الجزائر المرتبة ال105 عالمياً، وفقاً لمؤشر مدركات الفساد، لعام 2018.
ويتزامن مع ذلك استمرار الاحتجاجات التي تشهدها عدة مدن جزائرية في 30 إبريل الماضي حيث تصدر مطلب استقلالية العدالة شعارات المسيرة العاشرة للطلبة والعمال الذين هتفوا بصوت واحد «الشعب يريد محاسبة أويحيى والسعيد»، في إشارة لرئيس الوزراء السابق وأخ الرئيس سعيد بوتفليقة.
* الدافع الثاني، فرملة أي أدوار محتملة لرموز النظام السابق في ترتيبات المرحلة الانتقالية عبر إجراءات متسارعة بهدف تفادي التأخر في معالجة ملفات الفساد دون التقيد بالإجراءات القانونية الروتينية التي تتطلب وقتاً طويلاً، ما قد يتسبب في إفلات تلك الرموز من العقاب، إذ ربما يعمدون إلى وضع المعوقات أمام إدارة المرحلة الانتقالية بما يجنب البلاد الدخول في منزلق من الفوضى.
وهنا، يمكن فهم سياق تصريحات إعلامية أخيرة للفريق قايد صالح، بأن «أطرافاً أجنبية تحاول زرع الفتنة وزعزعة الاستقرار في الجزائر»، عبر «دفع بعض الأشخاص إلى واجهة المشهد الحالي وفرضهم كممثلين عن الشعب تحسباً لقيادة المرحلة الانتقالية، الأمر الذي يعطي ملاحقة رموز عهد بوتفليقة من بوابة مكافحة الفساد زخماً آخر، يتعلق بقطع الطريق أمام توظيفهم من قبل قوى أجنبية لزعزعة استقرار البلاد».
*الدافع الثالث، الإسهام نسبياً في مواجهة المشكلات الاقتصادية والاحتلالات المالية الحادة، التي تواجهها البلاد بحيث يمكن الاستفادة من استعادة الأموال المنهوية في إنعاش خزانة الدولة بعد تخليص الشعب الجزائري من النخب الفاسدة التي امتصت خيرات الدولة ونهبت مواردها لصالح حلقة ضيقة من النافذين على مدى عقدين من الزمن.
ورغم ذلك فإن أزمة الجزائر تسير نحو انسداد أكثر وغموض في ظل إصرار المؤسسة العسكرية على تنظيم الانتخابات الرئاسية وتمسك الشارع برفضها في ظل بقاء رموز نظام بوتفليقة في الحكم وتصدر وجوه أمثال عبد القادر بن صالح، ونور الدين بدوي أو من يطلق عليهم أصحاب «الباءات الثلاث».
فقد أشار موقع الجزائرية للأخبار إلى تواصل الحراك الشعبي السلمي في جمعته الحادية عشرة توالياً بولاية العاصمة مثلها مثل باقي ولايات الوطن، في 3 مايو الجاري كان بمثابة وقفة شعبية أخرى للمطالبة برحيل رموز النظام، إذ انطلقت حشود غفيرة لتجوب الشوارع والأزقة مباشرة بعد صلاة الجمعة، مرددين شعارات تندّد بالفساد «كليتو لبلاد يا السراقين».
ومن المتوقع اتساع دائرة الملاحقين في ملفات الفساد، خلال الأيام القادمة، لتشمل رئيس حزب جبهة التحرير السابق جمال ولد عباس، والوزير السابق سعيد بركات بعد مثولهما أمام لجنة الشؤون القانونية لمجلس الأمة يوم الخميس (9 مايو الجاري).
خلاصة القول إن توجه السلطة الجزائرية الحالية نحو مواجهة رموز الفساد يثير تساؤلاً عريضاً، وهو ما إذا كانت هذه الحملة «خطة» من السلطة لتشتيت الشارع وتهدئة الحراك الشعبي، أم أنها «حملة» ممتدة تقود إلى قطع نهائي مع الفساد وبدء مرحلة من الشفافية والمحاسبة، وهو ما سوف تجيب عنه المرحلة المقبلة من تاريخ الجزائر، الذي لن يتوقف عند محطة انتخابات الرئاسة في الرابع من يوليو المقبل.

* رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"