الحكومة العراقية والمأزق السياسي

03:20 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

الأزمة السياسية العميقة التي تأخذ بخناق العراق والمتمثلة في العجز عن استكمال تشكيل الحكومة، لا يلوح لها حل في الأفق القريب، على الرغم من مرور نحو ثمانية أشهر على إجراء الانتخابات التشريعية في مايو 2018، وقرابة خمسة أشهر على إعلان النتائج النهائية للانتخابات بقرار من المفوضية العليا، وبتصديق من المحكمة العليا العراقية في شهر أغسطس الماضي!
على الرغم من حصول 14 وزيراً قدمهم رئيس الحكومة عادل عبد المهدي إلى البرلمان، على ثقة النواب في 25 أكتوبر 2018، وبقي 8 وزراء تقدم ببعضهم تباعاً؛ فإن العقدة المستعصية ظلت قائمة فيما يتصل بوزيري الدفاع والداخلية، اللذين لم يتم التوافق عليهما بين الكتل البرلمانية ورئيس الحكومة حتى الآن! علماً بأنهما الوزيران الأكثر أهمية، وكلما بدا أن التفاؤل الحذر يطل برأسه كان يعود للتواري من جديد.
ثم تلقت جهود استكمال تشكيل الحكومة صفعة قاسية منذ أيام، حينما تفجرت فضيحة سياسية حول وزيرة التربية شيماء الحيالي، بعد عدة أيام من إعلان ثقة البرلمان بها، فقد اتضح أن شقيق الوزيرة كان قيادياً في «داعش»، وأن اثنين من أبنائه كانا انتحاريين بالتنظيم!
واضطرت الوزيرة إلى تقديم استقالتها، واعترفت بالواقعة في خطاب الاستقالة، وبررتها بأن «داعش» أجبر شقيقها على التعاون تحت تهديد السلاح، لكن دفاعها بدا غير مقنع؛ لأن المضطر لا يكون قيادياً، ولا يكون ابناه انتحاريين.
وتقديرنا أن السببين الأعمقين لأزمة تشكيل الحكومة العراقية هما:
أولاً: التشرذم الكبير للأحزاب والقوى السياسية العراقية الذي يصل إلى درجة «التشظي»، والذي يرتبط بالوضع الطائفي والقبلي للمجتمع ونظام المحاصصة، كما يرتبط بالانهيار الاقتصادي والاجتماعي للبلاد نتيجة ملابسات مرحلة الحصار، ثم مرحلة الغزو، وكذلك باندثار الحياة السياسية والتقاليد المرتبطة بها، بعد عقود من الانقلابات العسكرية المتوالية، وتصفية الحياة السياسية تحت حكم البعث، ثم في ظل الاحتلال.
ثانياً: التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية في العراق، وأدق تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد، خاصة من جانب الاحتلال الأمريكي، ثم من جانب إيران.
وقد جاءت مرحلة الغزو «الداعشي» لتضع تفاعل سلبيات العنصرين المذكورين على نار حامية، وتزيد من تأثيراتهما الضارة، فتعمق الطائفية والنزاعات الانعزالية والانتقامية، وتفتح الباب واسعاً أمام مزيد من ذرائع التدخل الأجنبي، سواء من جانب الولايات المتحدة و(التحالف الدولي)، أو من جانب إيران.
وهكذا كانت الحياة السياسية «الجديدة» في العراق تنمو في ظل وجود دستور أملته واشنطن، يقوم على تعميق الطائفية والمحاصصة، ويشجع الأكراد على السعي إلى الانفصال تحت ستار الحكم الذاتي، وتنتشر الميليشيات والجماعات المسلحة والتنظيمات المرتبطة بالخارج، كما يتسع نطاق أنشطة أجهزة المخابرات والدعاية الأجنبية التي تشجع الانقسامات، وتنكر وجود الثوابت الوطنية، وتمديد التمويل لمختلف الجماعات والحركات السياسية.
وهكذا وجدنا في الانتخابات الأخيرة (مايو 2018)، عدداً لا حصر له من الأحزاب والحركات السياسية الصغيرة المتضاربة الاتجاهات، إلى حد بعيد جداً، ومضطرة للتحالف لأسباب انتخابية بحتة في تكتلات تنطوي على عناصر انفجارها في أي وقت، كما تنطوي على طموحات فردية كبيرة، تبحث عن إمكانية التحقق بغض النظر عن المبادئ، بالنسبة للأغلبية الكبرى منها، ووجدنا نتائج الانتخابات تعبر عن ذلك «التشظي» الذي سبقت الإشارة إليه. فأكبر عدد من المقاعد حصل عليه تحالف «سائرون» بقيادة رجل الدين الشيعي العروبي مقتدى الصدر (54 مقعداً)؛ أي أقل من سُدس مقاعد البرلمان (329 مقعداً)، يليه تحالف «الفتح» الذي يضم مختلف فصائل الحشد الشعبي المرتبطة بإيران (48 مقعداً)، بزعامة هادي العامري، ثم تحالف «النصر» بقيادة رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي (42 مقعداً)، ثم تحالف دولة القانون، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي (26 مقعداً)، يليه الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة مسعود برازاني (25 مقعداً)، ثم تحالف «الوطنية» بقيادة إياد علاوي (21 مقعداً)، يليه «تيار الحكمة» بقيادة عمار الحكيم (19 مقعداً)، ثم الاتحاد الوطني الكردستاني، الكردي المعتدل (18 مقعداً)، يليه تحالف «القرار العراقي» السني بقيادة أسامة النجيفي (11 مقعداً)، ثم أحزاب وتكتلات أخرى أصغر.. علماً بأن الشيعة والسنة متداخلون في عدد من التيارات المذكورة، من دون أن يعني هذا تحالفاً على أساس مبدئي أو دائم؛ بل على أساس مصلحي مؤقت على الأغلب الأعم.
فإذا وضعنا في اعتبارنا أن الأغلبية البرلمانية المطلوبة هي (165 مقعداً)، فسنجد أن الحصول عليها يستلزم تحالف عدد من الكتل التي يستحيل عملياً الجمع بينها بصورة مستقرة، أو أن يقبل بعضها بقيادة البعض الآخر.
وهكذا كان منطقياً أن يتم أولاً انتخاب رئيس للبرلمان (محمد الحلبوسي/سني، متفاهم مع الشيعة) استغرق الاتفاق عليه جهوداً ومناورات لا يستهان بها، ثم انتخاب رئيس الجمهورية، هو د. برهم صالح (من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني)، على الرغم من المعارضة الشديدة من جانب برازاني.. المحاصصة توجب أن تكون الرئاسة للأكراد، وهي منصب بروتوكولي أساساً.
ثم استغرق الاتفاق على مرشح شيعي مستقل (تكنوقراطي) لرئاسة الوزراء وقتاً وجهداً كبيرين، حتى تم الاتفاق على الدكتور عادل عبد المهدي، الذي كان عليه أن يشكل حكومته على أساس تلعب الطائفية فيه دوراً حاسماً هو الآخر. فلابد أن يكون وزير الداخلية شيعياً، أما وزير الدفاع فيجب أن يكون سنياً، ويجب أن يكون هذان الوزيران بالذات محل توافق من جانب أهم الكتل لخطورة منصبيهما (وليسا حائزين أغلبية الأصوات وحسب).
ولا نستطيع بالطبع أن نقول: هذه هي الديمقراطية! فالحقيقة أن الديمقراطية لا تتفق مع الطائفية والقبلية، ولا مع الخضوع للإملاءات الأجنبية؛ بل يجب أن تكون نتائجها تعبيراً عن مصالح الشعب والوطن.
أما نتيجة هذا العبث (الطائفي/التحاصصي/الخاضع لإرادات خارجية)، فهي الإضعاف الشديد لعمل الحكومة إلى ما يشبه الشلل، وتعطيل دولاب إعادة الإعمار والتنمية، والإضرار بمصالح الوطن والشعب، وهذا إضرار لا شك فيه بالأمن القومي بمعناه الشامل.
وأما نتيجته بالنسبة للأمن القومي بمعناه المباشر أو الضيق (نشاط الجيش وقوى الأمن)، فهي مدمرة. ففي غياب وزيري الدفاع والداخلية لابد أن يتأثر المجهود العسكري والأمني سلباً، وها نحن نرى أن عملية استئصال جذور «داعش» في منطقة الحدود العراقية مع سوريا قد توقفت تقريباً، وأن التنظيم الإرهابي قد بدأ يلتقط أنفاسه، ويعيد تنظيم صفوفه.. ويشن الهجمات غربي العراق وشرقي سوريا، وهذا وضع سيحتاج إلى جهود أكبر لتصفيته كلما طال الوقت، وسيتم دفع ثمن أفدح مقابل هذه التصفية، كما أنه سيعطي الذرائع للتدخل الأمريكي والتركي في شؤون العراق وسوريا، وهو ما لا يتمناه عربي مخلص لمصالح البلدين الشقيقين.. فهل يفيق الطائفيون والمؤتمرون بأوامر الخارج؟

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"