الحوار هو الأنا.. الحوار هو الآخر

السؤال ثقافة إبداعية
04:21 صباحا
قراءة 5 دقائق

(1)

شكّل ملتقى الشارقة لفن الخط العربي الذي افتتحت فعالياته في بداية الشهر الجاري، والذي ضمت مجموعة من الأنشطة والمعارض الفردية فرصة لطرح مجموعة من الأسئلة الاشكالية التي تتجاوز الاطار الفني الى المستوى الفكري، حيث أن هذا الفن بكونه أحد الفنون الرئيسية التي انتشرت في أصقاع كثيرة من المعمورة وتحول الى رمز للحضارة العربية حين كانت في أوجها.

إن الاسئلة التي يطرحها هذا الفن تدور حول محور رئيسي هو علاقة التراث بالحداثة، هذه العلاقة التي كانت مجالاً لتنظير الكثير من المفكرين خلال العقود الثلاثة الأخيرة، على اعتبار ان الصدمة الكبرى التي عاشها العرب خلال القرن العشرين هي صدمة الحداثة عبر علاقتهم بالآخر، تلك العلاقة التي تعددت مستوياتها وتشعبت تجاذباتها، حيث ان الحداثة لم تكن فقط طرحاً نظرياً بحتاً وإنما أمراً واقعاً فرض آلياته وتقنياته وخياراته على العرب.

قد يرى البعض أن هذا الشكل الفني الذي هو الخط لا يحتمل الكثير من التنظير حوله، إلا أن آراء الفنانين أنفسهم تعكس مدى الأثر الفكري في هذا الفن، فالبعض يرى ان فن الخط هو مجرد حرفة لها قواعد وأصول، وبالتالي فإنه يحصر المسألة في اطار كلاسيكي ضيق، بل وينهي أي نقاش حولها، والبعض الآخر يرى ان الطاقة الميتافيزيقية التي امتلكها هذا الخط عبر التاريخ حتى أصبح جزءاً من العمارة الفنية في العالمين العربي والاسلامي، بكل المحمولات والدلالات الروحية والوجدانية لهذا لفن يمكن ان تكون قابلة للتجديد، في عملية إحيائية تستفيد من المنجز الفكري والجمالي لفنون الحداثة، وتكون قادرة على إقامة نوع من الجدل مع تاريخية هذا الفن وعراقته.

أحد النقاد الذين استطلعت الخليج آراءهم في هذا العدد أشار الى تجارب فنية جديدة استفادت من منجزات تتجاوز الحداثة الى ما بعد الحداثة كالفيديو آرت والنُصب والفن المفاهيمي، ويستنتج أن هذا الأمر يدل على حيوية فن الخط ومرونته وقابلية استمراره كشكل فني متميز قادر على ان يكون أحد أشكال التعبير الفنية الحديثة.

إن الملتقي وفقاً للصورة التي كان عليها، وللأسئلة التي طرحها قد حقق الكثير من أهدافه، وذلك في تفعيل الجدل الفكري حول فنوننا التراثية ومدى قابليتها لتكون جزءاً من المنجز الفني الانساني في عصر التقنيات، وخاصة ان هناك ثمة إقبالاً واضحاً من فنانين خارج الوطن العربي للاشتغال على فن الخط والابداع فيه.

(2)

الناقد السعودي سعد البازعي في حواره المنشور في هذا العدد من الملحق يطرح مسألة مهمة تعيدنا الى المشهد النقدي العربي في عصره الذهبي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حيث كان الناقد جزءاً من الدورة الابداعية والثقافية، ومشاركاً في صنع القيم الجمالية التي يجذرها الأدب بكل أشكاله شعراً ورواية ومسرحاً.

يقف البازعي موقفاً مبدئياً وجذرياً في رفضه لما يسمى اليوم نقداً وهو في حقيقته لا يتجاوز الحالة الانطباعية، بل وينسحب من دوره الأساسي في اطلاق أحكام قيمة على العمل الأدبي الذي يتناوله، وكأن البازعي يشير الى عمق المأساة الفكرية التي يحياها المبدع والمثقف العربي، وهي غياب المرجعيات وفقدان المواقف. وبالتالي فإن أي نقد بالضرورة اليوم حتى يسمى نقداً يجب أن يقلب الطاولة النقدية التي باتت أصناف طعومها بلا نكهة أو رائحة، فالناقد بات يخشى أن يقول موقفاً أو يصدر أحكاماً قيمة بحق أي عمل أدبي، وارتفاع مستوى المجاملة على الساحة بين الناقد والمبدع، هذا الأمر الذي يشيع ثقافة تواطئية على حساب المتلقي. إذاً فالبازعي في كلامه هذا يدق ناقوس الخطر، فالنقد الأدبي ليس مفصولاً عن النقد الفكري وعن الذهنية النقدية والتي من دونها ليس هناك أي مجال للتطور، فالمبدع يحتاج مهما بلغ من الصيت والشهرة الى ناقد محترف يمتلك مرجعياته الفكرية وأدواته النقدية ليقف على عمله، قارئاً لبناه، محللاً الأفكار والتراكيب والصيغ، وصولاً الى عملية اطلاق أحكام قيمة ذات أهمية كما للمبدع نفسه أيضاً للمتلقي، وبنفس الدرجة من الأهمية للمساهمة في تحريك دوره الابداعي باستمرار ونمو العقلية النقدية وتجذيرها.

المسألة الثانية التي طرحها البازعي تتمثل في نخبوية قصيدة النثر، مما جعلها بشكل دائم على مسافة بعيدة عن شرائح كبيرة من المتلقين، هذا الأمر الذي يشير إليه البازعي بخصوص قصيدة النثر هو من الأهمية بمكان لفتح نقاش جدي، يتجاوز مشروعية هذه القصيدة الى دراسة الأسباب التي جعلتها نخبوية، وأبعدت عنها كل الشرائح، على الرغم من ان المفارقة الكبيرة تكمن في ان هذه القصيدة هي بنت المشهد الشعري الحديث الذي يفترض ان يكون متلمساً للإشكاليات المطروحة، ومتجاوباً مع الذائقة العامة.

وما حصل هو العكس تماماً مما يحيل الكثير من الأسئلة الى الحقل الاجتماعي نفسه، الذي قد يكون الحقل الأكثر خصوبة لاكتشاف جزء كبير من أسباب القطيعة بين قصيدة النثر والشرائح الكبيرة من المتلقين.

(3)

في هذا العدد أيضاً تثار جملة من الاسئلة حول دور جائزة الشارقة للتأليف المسرحي في تشجيع المواهب التأليفية الجديدة للمسرح، والمساهمة في تكريس إبداعات المؤلفين الذين لهم إسهامات معروفة في هذا المجال.

وتشمل هذه الأسئلة مناحي عدةٍ، أهمها ضرورة إيجاد حركة تأليف مواكبة للأنشطة والفعاليات المسرحية الكثيرة الموجودة في الشارقة على وجه الخصوص والإمارات على وجه العموم، وهذه الحركة التي يجب ان تكون ثمرة لعملية التنمية الثقافية الشاملة التي تشهدها الدولة، وأن يكون المؤلفون المسرحيون على تماس مباشر مع التطورات التي يشهدها الواقع الاقتصادي والاجتماعي، حتى يكونوا قادرين على استنباط أفكار ورؤى ومواضيع جديدة، تتفاعل مع تطلعات الجمهور الى رؤية إبداع تتناغم مع كل ما هو مستجد فكرياً وجمالياً. فالتأليف المسرحي ليس عملية تقنية بحتة تتمثل في ايجاد قصة وحوار وشخصيات، إنه في الأساس وجهة نظر وموقف، وقراءة في الكون والانسان، وهو خيار ثقافي وفكري وإبداعي.

من هنا فإن جائزة التأليف المسرحي هي دعم للبحث أولاً. اذ لا مسرح من دون بحث، لأنه الأرضية التي يشكل من خلالها المؤلف موضوعه، ويختار بناء عليه شخصياته ويحملها الرسائل والدلالات التي يريدها، وصولاً الى ما يمكن تسميته مجازاً السياق العام للمعنى في العمل المسرحي الذي هو المكافىء الرمزي للموقف الفكري والانساني للمؤلف.

كذلك يحتفل هذا الملحق بمدينة فاس المغربية بمناسبة مرور 1200 عام على تأسيسها، بالاضاءة على تاريخها ومعالمها وثقافتها المتنوعة وأهم الأنشطة الموجودة على أجندة الاحتفالية التي تقيمها مدينة فاس بهذه المناسبة والتي تتنوع بين النشاط الفكري والفلسفي بكونها حاضنة لأقدم جامعة في التاريخ وهي جامعة القرويين ومكان لإقامة كثيرين من الفلاسفة المهمين، وعلى رأسهم ابن خلدون، بالاضافة الى الأنشطة الشعرية والتشكيلية والفنية الاخرى كمهرجان الموسيقا ومهرجان السينما.

فاس هي نموذج مدينة أعطتها الجغرافيا موقعاً يؤهلها لأن تكون مدينة للحوار بين الشرق والغرب، وفضاء للقاء الأنا بالآخر، فاس مدينة ثقافة بامتياز، فلا ثقافة بلا حوار.

لا ثقافة من دون الأنا ومن دون الآخر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"