الحياة على حافة الزمن

03:38 صباحا
قراءة 7 دقائق
** محمد إسماعيل زاهر

«إن العالم يروغ مني، فأضطرب بين الأشباح»، هو عالم البطل المعتزل لويس سالافان الخاص جداً في رواية «اعتراف منتصف الليل» لجورج دوهاميل. كل حكايات هذا العالم مفارقة لواقع جلف، خشن، ولكنها تظل في النهاية حكايات لا تسعى إلى تأسيس عالم بديل ولو من منطلق الحلم.
المعتزل لا يهمه التغيير سواء على مستوى الحكاية أو الواقع، هو لايطيق فكرة التعاقد مع الآخر، ولذلك لا مفر من الهروب من ذلك الآخر، تجنبه، مخاصمته، ومن المستحيل الدخول معه في علاقة حميمية، فهناك تلك الحدود التي تضعها الذات دائماً في تعاملها مع البشر.
البطل المعتزل لا يرانا، هو يتأمل ذاته باستمرار، لا يستطيع أن يفرح، أو يحزن، ليس بإمكانه أن يكون رقيقاً أو غليظاً، خيّراً أو شريراً، كل هذه المفردات لا محل لها في قاموسه، نادراً ما يحب ولكنه يعجز عن التواصل، هناك في الروح ألم خفي، هو يحب بعيداً في خياله، ويثأر في خياله، ويشعر ويتألم أيضاً في ذلك الخيال، يقول لويس سالافان: «أنا ابن عاق، وصديق خائن، ومحب غادر. في أعماق قلبي تمنيت موت أمي، واغتصبت مارت ودنستها، وغدرت بمرجريت. وفعلت ألف جريمة أخرى، انمحت من ذهني حتى ذكراها، وهذا أشد الأمور إقناطاً».
ولكن من مسارات السرد، سنكتشف أن علاقته كانت جيدة جداً مع أمه، وأمنية موتها تلك نابعة من شفقتها عليه، لأنه ترك العمل، وأصبح إما نائماً طوال النهار أو متصعلكاً في الشوارع بالليل، يعود إليها متأخراً، لم تكن تنصحه، أو تؤنبه، أو توبخه، ولكن إحساسه هو أن هناك من يعرف أنه عاطل ووحيد، ويراقبه في الوقت نفسه، والمعتزل لا يحتمل المراقبة، هو يتلصص على الجميع، ولكن ذاته نفسها تتضخم عندما تلاحظ أي تلصص مضاد، هو يحدق في الجميع، ولكن نظرة ما إليه قد تحرمه من الأمان لأيام طويلة، أما مارت زوجة صديقه لانو، فلم يكن بينهما شيء، حيث كان يزورهما كثيراً، ولكن في إحدى تلك الزيارات لم يجد صديقه فاضطر لانتظاره، ومارت تعمل في المنزل بملابس خفيفة، وفجأة أحس أنه يرغبها، فسارع بالخروج فوراً من المنزل، أما مرجريت فهي جارته التي تأتي لزيارة أمه أو العمل معها في بعض الشؤون المنزلية، كان يعرف رغبة الأم في تزويجه بمرجريت، وكان يحس بقدر من الانجذاب والعاطفة تجاهها، ولكنه إحساس خضع في النهاية لمشاعر مبتورة، لا تكتمل إلا في الخيال.
«اعتراف منتصف الليل»، رواية متقشفة الأحداث، تقع في 210 صفحات من القطع المتوسط، وبرغم أن لا علاقة مباشرة لتلك الرواية بفكرة اليوميات، إلا أننا نجد أنفسنا متورطين في اليومي بصورة أو أخرى بداية من العنوان، وحتى تسكع البطل في شوارع باريس وانطباعاته، وإحساسه بالزمن الذي يحيل إلى نهاية يوم وبداية يوم من شقاء المعتزل الذي يعيش على حافة الزمن، فحياة سالافان ليست أكثر من يوم يدور حول منتصف الليل.

حاضر دائم

تبدأ الرواية بسالافان وهو عاطل عن العمل، متسكع في شوارع باريس، ولكن لماذا ترك العمل؟، في أحد الأيام دخل على رئيسه في المكتب ليوقع منه بعض الأوراق، ولم يستطع أن يقاوم رغبته في لمس أذن الرئيس، الأذن مغرية تدعو سالافان، لكي يلمسها، حادثة تافهة، وفكرة وظفتها بعض الكتابات الوجودية، وعلى أثر ذلك يفصل من العمل لتبدأ معاناته.
البطل المعتزل لا تاريخ له، الماضي فقير جداً، والذاكرة معطلة وهنا لا يمكننا أن نفر من اليومي، يقول سالافان: «ذكرياتي الشخصية المحضة قليلة جداً» هي أحداث الحاضر ومنمنماته وتفصيلاته على مدار الساعة التي يعاني منها المعتزل دوماً، لا وقائع حقيقية يمر بها، ولذلك تخلو الرواية من فكرة الحدث المتصاعد، ولا شيء في الأفق، لا توقع، والحياة فارغة من الأحلام بمستوييها، أحلام النوم وأحلام اليقظة، ومن هنا مغزى منتصف الليل، الفاصل بين زمنين، ولكنهما بالنسبة له ساكنان جامدان، يراوح بينهما باستمرار، حيث يعجز عن الفعل، فلا حصاد يجنيه من يوم مضى، ولا ثمر ينتظره من يوم مقبل، فعند منتصف الليل يتكرر اختبار المعتزل لأفكاره وطروحاته غير القابلة للحل، في عود أبدي مديد.
مكان سالافان الأثير منزله: المسكن هو المكان الذي ينتهي بأن يصبح أشبه بصورة للكائن، والبطولة المطلقة في عالمه للذات عندما تحاور المكان وتستنطقه، ولذلك تتعدد في الرواية تفصيلات وافية لشوارع باريس، بميادينها وحدائقها وأزقتها، فضلاً عن وصف دقيق للمنزل الذي يعيش فيه، البوابة والدرج..الخ، ولكن لا وجود للبشر، يقول سالافان:«أصدقائي! ليس لي أصدقاء»، «لي أقارب قليلون، بُعداء، وأنت تعلم هذا النوع من الأقارب الذين يكاد المرء يخاف حين يسمع الحديث عنهم»، أما بقية العابرين في النص فهم مجرد وجوه، ويخصص في منتصف الحكاية بضع صفحات ليكتب تأملاته عن عدة شخصيات مرت به في حياته سريعاً،، ولا عيوب واضحة تجعله ينفر من البشر، فتلك الشخصيات ليسوا من الأشرار أو أصحاب السمات القاتلة التي تجعلنا نبتعد عنهم، بشر عاديون، ولأنهم كذلك هو لا يستطيع التواصل معهم.
تقوم أجزاء كبيرة من السرد على حديث يوجهه سالافان للقارىء، يشركه معه فيما يفكر، يحاول أن يورطه في مشاعره، ربما هو لاحظ ذلك السؤال الذي سيطرحه كل منا عندما تحدث عن عجزه في إقامة علاقات طبيعية مع أحد الشخصيات السابقة، بعد أن ينتهي مباشرة من تعليقاته على هؤلاء، يورد واقعة تعرض لها يوماً، حيث تعرف إلى شاب يدرس الطب، وعندما ذهب معه إلى المشرحة، وشاهد العديد من الجثث التي يتدرب عليها الطلبة بالدرس، قال معلقاً على تلك الجثث: «ما رأيته هنالك كان الرسم البارز للإنسان. القالب واحد تصب فيه ملايين النسخ».

جدار

البشر بالنسبة للمعتزل خلقوا من قالب واحد، أو هم موتى، لا يوجد ما يميزهم كأفراد، ربما يتسمون بالطيبة، ولكنهم في النهاية قطيع، أفكارهم تقليدية، وحديثهم مجرد لغو فارغ وثرثرة لا معنى لهم، وسلوكياتهم مكررة ومملة، تخلو من الابتكار والتجديد، ينقصهم التأمل، وروح التمرد على ذلك الوجود القاسي، وأحياناً يشعر بالعكس، يحس أنه هو الميت في عالم يمتلئ بالمسرة والحيوية، وفي الحالتين لا تداخل بين العالمين، يقول سالافان:«جدار! جدار! إحساس بأنك أمام جدار شاهق، شديد الملاسة، عظيم السمك، وأن هذا الجدار هو المستقبل، وأنك لا تستطيع أن تعلوه، ولا أن تهدمه، ولا أن تنفذ منه. إن الذين لم يجربوا غير السعادة لا يستطيعون أن يدركوا مثل هذا الإحساس».
المعتزل يؤلمه المجتمع الواضح والمكشوف، والذي يتحدث فيه الجميع عن مختلف المشاعر ببغاويّة من دون بحث وتبصر، من دون مذاق فردي، يجعل كل إنسان يختلف عن الآخرين، حيث يتحول كل فرد وكل مكان وكل سلوك في هذا المجتمع إلى كتاب مفتوح أمام سالافان، ولكنه كتاب يخلو من المعنى ويفتقد إلى ما يثير شغف الاكتشاف ويحرك الوجدان، هو مجتمع لا يهتم بتلك الروح الخفية الألقة، التي عبر عنها سالافان بتاريخ الأفكار الخاصة التي لا يلتفت إليها أحد، فكل ما يصبو إليه المجتمع: «تاريخ أعمالنا..ذلك الذي يُنقش على البرونز»، ولذلك فالمعتزل عدو العمل، ليس العمل بالمعنى المباشر، ولكن أي نوع من العمل يدفع الإنسان إلى الابتعاد ولو للحظة واحدة عن تأمل مفارقة وجوده المأساوي.
ونتيجة لكل هذا فالمعتزل لا يشتغل ولا يحب أو يتزوج أو يسعى إلى تكوين أسرة، لا يصادق، فما الجديد الذي تضيفه أي علاقة من هذه العلاقات إلى شخصية الإنسان الباحث عن تفرده؟، عن طمأنينته التي لا يدرك أبعادها سواه، عن سكينته المدموغة بأحاسيسه هو في جموحها الأقصى، جميع البشر يشتغلون ويحبون ويتزوجون..الخ، يعيشون ويموتون في تلك القصة المملة والخالدة، وفي كل مرة ولمليارات المرات تتكرر القصة من دون سؤال عن المغزى والهدف، ولكن الفرد الحقيقي وحده، الذي اعتزل المجتمع هو من يتوقف وحده، ليرى وحده، ويسأل وحده، ولذلك هو يعاني وحده عبء تجربته الغامضة التي لا يستطيع أن يتشاركها مع أحد.
البطل المعتزل لا يكره الحياة، ولا يحبها، ولا يفكر في الموت: «لست أبحث عن الموت. فإني لم أستعد بعد للموت»، ولكنه لا يرى في تلك الحياة أي معنى ملقى على قارعة الطريق ليلتقطه.

سؤال القارئ

تنتهي الرواية: «القصة التي ليست بقصة»، بترك سالافان لأمه، ليسألنا جميعاً في آخر النص: «أنت يا سيدي، يا من تبدو سمحاً طيباً، ويامن تركتني بهذا الرفق العظيم أتكلم، لعلك تدلني على ما ينبغي أن أفعل». وهو هنا لا يسألنا النصح أو الإرشاد، أو يدفعنا لنتعاطف معه، فنحن جميعاً لا نعنيه في شيء، هي ليست أكثر من دعوة لكي يستبطن كل منا اختبار المعنى العسير الذي دخله سالافان بإراداته الحرة، ربما يفهم أحدنا تلك المحنة وعندئذ سيهرب منا سلام القلب، ذلك المعنى الوحيد الذي تشوق له سالافان، يفر منا ذلك السلام إذا حدقنا في قصتنا الخاصة، التي يعتز الكثيرون منا بوقائعها ويؤسسون عليها أساطيرهم الخاصة، هنا فقط ربما ندرك أنها ليست بقصة، وأننا في العمق في ذلك الجزء الذي لا نصل إليه نشبه إلى حد بعيد سالافان، ولكننا أجبن من أن نقر بذلك، وأتفه من أن نخوض محنته، ساعتها ربما نتألم ثم نغضب، ثم ننبذه جميعاً، ولكننا لن نهرب أبداً من شبح السؤال القابع في ذلك الجزء الخاص بنا: هل انتبذنا سالافان أم نحن الذين تركناه يتلو اعترافاته وحيداً وبائساً عند منتصف الليل؟.

انسحاب

يكتب جورج دوهاميل في «اعتراف منتصف الليل» بروح اليوميات انطباعات عن واقع بارد يعيش فيه لويس سالافان، يكتب عن ذات تعيش بيننا ولكنها تتحسس من الجميع، وهي عندما لا تقبل واقعها، لا تثور عليه، لإنشاء واقع ثانٍ، هي تعجز عن كل شيء إلا الانسحاب من ذلك الواقع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"