السودان..عقبات على طريق «الانتقال»

03:33 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أيمن شبانة *

في الرابع عشر من يناير 2020 كان السودانيون على موعد مع محاولة جديدة لإفشال العملية الانتقالية الجارية بالبلاد، عندما تمردت هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن والاستخبارات، رافضة إخلاء مقراتها وتسليم سلاحها لقوات الجيش والأمن.
بصرف النظر عن دوافع هذا التمرد والجهات التي تقف وراءه، واحتمالات تكراره، وسعي البعض لاستغلاله سياسياً، فإن الشواهد تؤكد وعورة طريق الانتقال السياسي، وأن تأسيس نظام جديد يستجيب لطموحات ثورة ديسمبر2018 سيكون أمراً محفوفاً بتحديات جسام، وهو ما يعني أن السودان لا يزال في غرفة العناية، ويحتاج إلى الكثير من الجهد للتعافي وتحقيق أهداف الثورة.
كانت الوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة الانتقالية قد حددت أولويات العمل بتلك المرحلة، لتشمل إنهاء الحرب، وتحقيق السلام الشامل، وصياغة دستور دائم للبلاد، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وإصلاح النظام القانوني لضمان استقلال القضاء، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، والتي تميز بين المواطنين، وتعزيز حقوق الإنسان، وتفكيك بنية نظام الإنقاذ، ومعالجة الأزمة الاقتصادية، وانتهاج سياسة خارجية متوازنة.

ثلاثة مسارات للتفاوض

لكن المعطيات الراهنة ترجح صعوبة تحقيق تلك الأولويات وفق الجداول الزمنية المقترحة، فعلى صعيد إنهاء الحرب وتحقيق السلام، يتطلع السودانيون إلى تحقيق ذلك في غضون الأشهر الستة الأولى للمرحلة الانتقالية، التي يبلغ أمدها 39 شهراً. وعلى الرغم من إجراء العديد من جولات التفاوض في جوبا، عاصمة جنوب السودان، والتوافق بشأن ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد، وتوقيع اتفاق للسماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق. إلا أن فرص السلام لا تزال أسيرة لبعض القيود.
إذ تهيمن الانشقاقات على الحركات المسلحة، التي تفتقر إلى قيادة موحدة، كما توجد ثلاثة مسارات للتفاوض هي: دارفور، والمنطقتان «جنوب كردفان والنيل الأزرق»، والشرق. إضافة إلى غلبة المطالبات الإقليمية على حساب القضايا القومية. والخلاف بشأن هوية الدولة وطبيعة نظامها السياسي. ورفض بعض الحركات الانضمام إلى المفاوضات، وعلى رأسها حركة تحرير السودان / جناح عبد الواحد نور.
وبالنسبة لإجراءات تفكيك نظام الإنقاذ، فهي لا تزال محلاً للجدل بشأن أولويتها وتبعات تطبيقها، إذ ترى السلطة الانتقالية ضرورة المسارعة بالتفكيك، باعتباره شرطاً لازماً للوفاء باستحقاقات المرحلة الانتقالية، التي يستحيل إنجازها بالاعتماد على كوادر الإنقاذ والإخوان المسلمين، مؤكدة أن رفع اسم السودان من اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب يقتضي التخلص من رموز التطرف الديني، التي وصمت اسم البلاد بدعم الإرهاب، وممارسة الأنشطة التخريبية الهدامة بدول الجوار.
في المقابل، يرى البعض أن إجراءات التفكيك تأتي في سياق الرغبة في إرضاء الثوار، والانتقام من رموز النظام السابق، والتمهيد لتمكين جديد، لمصلحة القوى الثورية، التي يحتل التيار اليساري موقعاً بارزاً في إطارها، وأنها سوف تستعدي قوى الثورة المضادة، وتدفعها للتضامن، واتباع سياسة حافة الهاوية، نتيجة لانتزاع مكتسباتها السياسية والمالية، بما يدفع السودان إلى أتون الفوضى الأمنية، والإرهاب، مثلما حدث في ليبيا.
لذا تعالت الأصوات لتطالب بالتريث في تطبيق إجراءات التفكيك، نظراً لعدم قدرة السلطة الانتقالية على توفير كفاءات وطنية تحل محل القادة المستبعدين، والتعقيدات المرتبطة بمحاكمتهم، وارتباك الموقف الداخلي بشأن تسليم الرئيس البشير للمحكمة الجنائية الدولية. كما أن تجميد أنشطة المؤسسات الخيرية المحسوبة على نظام الإنقاذ دون توفير البديل المناسب سيؤثر بالسلب في الأوضاع المعيشية للشرائح الاجتماعية الدنيا، التي تستفيد من خدماتها.
وفي ما يتعلق بتكوين المجلس التشريعي، فإن الوثيقة الدستورية تمنح قوى الحرية والتغيير67% من مقاعده، وهو ما تتمسك الأحزاب السياسية والحركات المسلحة برفضه، خوفاً من هيمنة قوى الحرية والتغيير على المجلس، الأمر الذي يفسر المطالبات بإرجاء تشكيله حتى انتهاء مفاوضات السلام، لضمان تمثيل أفضل للقوى السياسية وللحركات المسلحة. كما توجد مسألة شائكة تتعلق بمحاسبة المتورطين في جرائم الفساد وانتهاك حقوق الإنسان.

براثن التدهور الاقتصادي

وبخصوص الأوضاع الاقتصادية، لا يزال السودان غير قادر على الفكاك من براثن التدهور الاقتصادي، خاصة أن تردي الأوضاع المعيشية للمواطنين يغل يد الحكومة عن اتخاذ إجراءات حاسمة لتقليل معدلات التضخم، وخفض عجز الموازنة، وتقليل الإنفاق الحكومي.
انعكس ذلك على ميزانية عام 2020، التي تضمنت عجزاً كلياً بمقدار 73 مليار جنيه سوداني، بينما اضطرت الحكومة لاتخاذ برامج حمائية لمصلحة الشرائح الدنيا، أهمها زيادة رواتب الموظفين والعمال بنسبة 100%، واعتماد دعم نقدي مباشر يستهدف في مرحلته الأولى زهاء 900 ألف أسرة (4.5 مليون مواطن)، وزيادة مخصصات التعليم والصحة، ورفع سقف التأمين الصحي بنسبة 100%، واستمرار دعم الخبز والغاز المنزلي، ودراسة رفع الدعم عن المحروقات بشكل متدرج.
وعلى مستوى الملفات الخارجية، تسعى الحكومة الانتقالية بشكل حثيث لاستعادة دفء العلاقات الودية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة والجهات المانحة، وذلك لرفع اسم السودان من اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وإعفائه من الديون، والحصول على المساعدات التنموية والإنسانية.
لذا وافقت الحكومة على إنشاء مكتب للمفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بالخرطوم. وبحثت مع الأمم المتحدة سبل التعاون الممكنة في مكافحة الإرهاب، كما زار رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك العديد من عواصم العالم، التماساً للدعم، ورفع اسم السودان من لائحة رعاة الإرهاب، خاصة أن وجود اسمه بها يعني استمرار أربعة قيود هي: حظر تصدير السلاح للسودان، وتقييد بيع وتصدير السلع ذات الاستخدام المشترك (مدنية وعسكرية)، وحظر تلقي المساعدات التنموية والقروض من المؤسسات التمويلية الدولية، والحرمان من الإعفاءات الأمريكية المتعلقة بالديون الخارجية.

الفجوة السودانية الأمريكية

لكن الشواهد تكشف عن اتساع الفجوة بين الخرطوم وواشنطن في هذا الشأن، حيث قرر الرئيس ترامب تمديد حالة الطوارئ الأمريكية إزاء السودان، بدعوى أنه لا يزال يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي. كما طالبت واشنطن الخرطوم بالتجاوب مع بعض المطالب الأخرى، منها: تقديم تعويضات مالية عن عمليات إرهابية يشتبه في ضلوع نظام الإنقاذ فيها. وأهمها تفجير السفارتين الأمريكيتين بكينيا وتنزانيا عام 1998، وتفجير المدمرة الأمريكية (كول) بخليج عدن عام 2000، وذلك على الرغم من صدور حكم قضائي يخلي مسؤولية السودان عن الحادث الأخير في مارس 2019.
لذا من غير المرجح حسم هذا الملف حالياً. نظراً لحرص الإدارة الأمريكية على استثماره في كسب دعم اللوبي اليهودي، ومنظمات حقوق الإنسان الأمريكية المتعاطفة مع الصراع في دارفور، خلال الحملة الانتخابية للرئيس ترامب. ورغبة واشنطن في استخدامه ورقة ضغط حاسمة لضمان الانتقال الديمقراطي في السودان، وعدم إعادة إنتاج نظام الإنقاذ.
لكل ما سبق، فإن عقبات الانتقال السياسي في السودان تتطلب تكاتف الجميع حتى لا تنجرف البلاد صوب الفوضى الأمنية وعدم الاستقرار، وذلك عبر إعلاء الراية الوطنية خلال مفاوضات السلام، وتأجيل المطالب الإقليمية، لما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وإرجاء المطالب الفئوية، وتهدئة ثورة التوقعات الشعبية، وخاصة تلك المتعلقة بالتوظيف، واستمرار التضامن العربي والإفريقي مع السلطة الانتقالية، خاصة بالنسبة لملفات إنهاء الصراع المسلح وتحقيق السلام، والدعم الاقتصادي.

* مدير مركز البحوث الإفريقية - جامعة القاهرة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"