السير وسط الفاجعة

03:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

القاهرة: ياسر سلطان

طاعون أشدود، هي لوحة للفنان الفرنسي نيكولاس بوسين، رسمها في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، من وحي إحدى روايات الكتاب المقدس، التي تتحدث عن وباء قاتل أباد سكان مدينة أشدود.

وتصور اللوحة المعروضة في متحف اللوفر على نحو قاس مشهداً مروعاً لسكان المدينة وهم يقاومون الوباء بما أتيح لهم من جهد. وفي اللوحة جثث ملقاة على الأرض، ورجال يتحركون بحذر بين آثار الفاجعة.

وفي صدر اللوحة تظهر جثة امرأة بينما يحاول أحدهم التقاط رضيعها الحي المتمسك بصدرها، في حين يقف آخرون وهم يسدون أنوفهم من هول الرائحة. ربما تحمل اللوحة رمزية دينية، لكنها تعد كذلك انعكاساً لما عايشه الفنان في ذلك الوقت من مظاهر الكارثة التي فتكت بالقارة الأوروبية عبر موجات متتالية من وباء الطاعون، فقد رسم بوسين هذه اللوحة أثناء إقامته في إيطاليا، في الوقت الذي كان وباء الطاعون يفتك بها مخلفاً ملايين الضحايا.

وتمثل اللوحة واحدة من بين مئات اللوحات الأخرى التي رسمها فنانون غربيون حول الأوبئة. وقد تعطينا تلك الأعمال الإبداعية لمحة واضحة عن الكيفية التي كانت تتعامل بها البشرية قديماً مع هذه الأوبئة. ولعل الخوف من وباء كورونا، وغيره من الأوبئة التي اجتاحت العالم خلال العقود الأخيرة، لا يقارن بما كان عليه الحال في القرون الوسطى، حيث لم يكن ثمة فهم واضح لطبيعة مثل هذه الأوبئة التي كانت تحصد في طريقها ملايين الأرواح، ويخيم شبحها سنوات مخلفاً وراءه الخراب والمآسي.

ومثلما ترك الطاعون أثره في الحياة في أوروبا، ترك أثره كذلك في فنانيها، بل انعكس تأثيره هذا على مسار الفن الغربي في شكل عام، حيث بدأت الواقعية التصويرية بالظهور شيئاً فشيئاً ابتداءً من نهاية القرن الرابع عشر، لتحتل مكان الرمزية الدينية السائدة، إذ إن مثل هول الفاجعة يشكل دافعاً للتعبير المباشر عنها وعن غيرها من الحوادث اللاحقة. ومن الملاحظ أن معظم الأعمال التي سجلت اجتياح الأوبئة للقارة الأوروبية كانت متأثرة في بدايتها بالخرافات السائدة في ذلك العصر، هذه الخرافات التي غذتها الكنيسة باعتبار أن تلك الأوبئة ما هي إلا عذاب، ولعنة من الله بسبب آثام الناس، وخطاياهم، أو أنها امتحان من الرب يختبر من خلاله المؤمنين بالملكوت. وتجلت هذه التفسيرات وغيرها في الكثير من أعمال الفنانين الغربيين الذين تناولوا موضوعات الأوبئة في أعمالهم، فانتشرت على سبيل المثال لوحات تصور الموت مجسداً في هيئة ملائكة غاضبة، أو هياكل عظمية تجر الناس، أو تنتشل جثثهم من الشوارع، وتكررت لوحات تصور المتوفى راقداً على سريره وحيداً في حضور هيكل عظمي، أو ملاك الموت. ولم يكن التعبير عن الوباء أيضاً يتم في شكل مباشر، باعتبار أن التعبير عنه ربما يجلب الشرور، أو يأتي بالوباء من جديد، بل كانت تتم الاستعانة في ذلك بالمرويات المُستمدة من الكتاب المقدس، والاستلهام من الأساطير القديمة المتعلقة بحوادث مشابهة. وفي لوحات أخرى صور الفنانون الموت باعتباره ممراً بين الحياة على الأرض، والخلود في الآخرة. وعلى هذا النحو مثلًا رسم الفنان الفلمنكي الشهير بول روبنز لوحته المسماة «الحية النحاسية» خلال النصف الأول من القرن السادس عشر، والمعروضة حالياً في المتحف الوطني البريطاني، والتي استمد موضوعها من الكتاب المقدس، ويصور فيها تضرع المرضى والمصابين لأخذ البركة من أحد القديسين.

أما لوحة «سباستيان» للفنان الهولندي خوسيه ليفرنكس، فتصور أحد القديسين وهو يبارك أرواح الموتى من جراء الوباء، بينما يتم نقل جثثهم الملفوفة بالأقمشة البيضاء في أسفل اللوحة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"