الشارقة .. إمارة العواصم الثقافية

متابعات
01:11 صباحا
قراءة 7 دقائق
يوسف أبولوز

لكل بلد في العالم عاصمة واحدة، وللشارقة في الإمارات ثلاث عواصم: عاصمة الثقافة العربية 1998، عاصمة الثقافة الإسلامية 2014، والعاصمة العالمية للكتاب 2019، ووراء ذلك كلِّه وغيره من مسرح وفنون وآداب وجدت بيئتها الثقافية الحرّة في الشارقة ثمة جذر ثقافي لهذه الإمارة التنويرية يستمد نسغه الحيوي من الكتب والكتابة والكتّاب والمكتبات منذ نحو مئة عام، وكانت المنطقة آنذاك قد عرفت المجلات وبعض المؤلفات القادمة من بلاد الشام في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، وكان التجّار آنذاك يقومون بدور تنويري يتمثل في التشجيع على القراءة والكتابة والتعليم عموماً، سواء في مرحلة تعليم الكتاتيب، أو في مرحلة التعليم النظامي.
الجذر الثقافي للشارقة عبر كل تلك العقود كان يقوم على الكتاب، وانتقاله، وتداوله، وكان الحصول على كتاب في تلك المرحلة الفطرية الثقافية بمنزلة الحصول على كنز، إلى جانب أننا لا ننسى أن شعراء تلك المرحلة ورجالاتها الرّواد الأوائل في العلم والثقافة كانوا أيضاً يعتبرون الكتاب ذخراً لهم ولأبنائهم، ولذويهم ولمحيطهم الاجتماعي العام، وسنأتي بعد قليل على جماعة الحيرة الشعرية في الشارقة التي كانت تجمّعاً ثقافياً أساسه الكتاب، فتاريخ الكتاب في الشارقة تاريخ قديم، وقبل أن نشير إلى الملامح الأولى لهذا الكتاب يجدر بنا أن نتحدث ولو قليلاً عن التراكمات الثقافية والمعرفية منذ بدء مشروع الشارقة الثقافي في السبعينات من القرن العشرين وحتى اليوم.. هذه التراكمات التي أوجدت للشارقة ثلاث عواصم أشرنا إلى أسمائها قبل قليل.

أسماء

1- الاسم الأول: عاصمة الثقافة العربية.. وهنا يأخذنا التاريخ إلى معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي انطلقت دورته الأولى في العام 1982، وها نحن في قلب الدورة الثامنة والثلاثين بتصاعدات بيانية ثقافية ملحوظة من عام إلى آخر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المعرض الذي تحوّل إلى مؤسسة وتشرف عليه هيئة مستقلة هي «هيئة الشارقة للكتاب» التي انطلقت في العام 2014، والذي يُشكّل اليوم كياناً ثقافياً إماراتياً خليجياً عربياً عالمياً وليس مجرد حدث سنوي على مدى أحد عشر يوماً.. هو أحد الأسباب الأولى والرئيسية في استحقاق الشارقة للقب عاصمة الثقافة العربية، وبالطبع استحقت الشارقة هذا اللقب لاعتبارات أدبية وثقافية وفكرية عديدة، لكن يبقى المعرض دائماً على رأس هذه الاعتبارات.
إن معرض الشارقة للكتاب حاضر في معارض الكتب العالمية الدولية كمشارك أو كضيف شرف تمثله الشارقة، ولنأخذ مثالاً واحداً فقط هو الأحدث أي قبل أيام قليلة، فقد أعلنت العاصمة الإسبانية مدريد في 28 سبتمبر/أيلول 2019 اختيار الشارقة ضيف شرف فعاليات معرض «ليبر» الدولي للكتاب، والشارقة عندما تشارك في حدث ثقافي عالمي أوروبي أو آسيوي أو إفريقي، فإننا نقرأ عادة حجم «العالمية» في مثل هذه الأحداث، فمعرض «ليبر» الإسباني الدولي للكتاب يستقطب 450 مؤسسة ودار نشر من 51 دولة، وقس على ذلك وعلى دلالات هذه الأرقام في معارض الكتب الدولية التي تخصّ الشارقة باعتباريات أدبية وثقافية وتكريمية عديدة.
2- الاسم الثاني: عاصمة الثقافة الإسلامية.. فقد راعت الشارقة قيمة واعتبارية الثقافة الإسلامية، وذلك في الطرز المعمارية المحلية للإمارة، وأوجدت أكبر مهرجان يرمز من ضمن رمزياته العديدة الجمالية والفكرية إلى الثقافة الإسلامية، وهو مهرجان الفنون الإسلامية وجوهره الخط العربي وثقافته وفلسفته وتأويلاته وتداعياته الروحية، وأكثر من ذلك أن هذا المهرجان انفتح على خطوطيات وحروفيات العالم بجهاته الأربع، وانتقل باللوحة الخطية المحدودة من كونها جدارية أو مسندية إلى كونها عملاً فنياً.. مفاهيمياً، أو نحتياً، أو أدائياً، أو تشكيلياً، وسوف تلتقي تجارب عالمية فنية في هذا المهرجان الذي نظرت إليه النخب الجمالية في العالم باعتباره ثقافة إنسانية عالمية، الأمر الذي انتبه إليه مثقفون وإعلاميون ومفكرون وفنّانون رأوا بالتالي أن الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية هو لقب استحقاق عن جدارة وفكر وثقافة، ولا ننسى هنا خزانة الكتب المتخصصة في الفنون بعامّة، ومنها الفنون الإسلامية، وهي واحدة من خزائن الشارقة ذات التاريخ العريق في احترام قيمة الكتاب منذ نحو مئة عام.
3- الاسم الثالث: عاصمة الكتاب العالمية.. فمن الطبيعي أو من الموضوعي أن يُنظر إلى تاريخ العاصمة التي يجدر بها أن تحوز هذا اللقب. هناك لجان دولية ومؤسسات متخصصة تدرس ملف كل مدينة تتقدم للقب عاصمة عالمية للكتاب، وقد دُرس ملف الشارقة جيداً، وكانت كل شروط اللقب قائمة في الملف الذي هو مجرد بطاقة تعريف بمشروع الشارقة الثقافي عبر عقوده الأربعة.
إن الشارقة لم تحرق المراحل، ولم تقفز على الحيثيات المقررة عند لجان الاختيار الدولية، بل إن مسألة «المراحل» هذه قد يكون نظر إليها بجدية ومسؤولية من جانب لجان الاختيار للعاصمة العالمية للكتاب، فالشارقة مدينة مراحل ثقافية، ومدينة سياق ثقافي، إنها مدينة تأسيس وبناء ومشاريع ومبادرات.. التأسيس للمشروع الثقافي كان في نهاية السبعينات، والبناء تبلور في الثمانينات، والمشاريع والمبادرات توسعت في التسعينات وما بعدها، وإلى اليوم وصولاً إلى صورة العواصم الثلاث لمدينة واحدة.

شواهد وإشارات

من الشواهد الشفوية والمدوّنة والمؤرشفة في بعض المصادر الثقافية التي يمكن الاعتماد عليها في معاينة التاريخ الثقافي للشارقة أو الجذر الثقافي لها، وبالتالي معاينة الكتب الأولى في هذه المدينة التي عرفت التعليم مبكراً.. أقول من هذه الشواهد.. شعراء جماعة الحيرة ورجالات الأدب والفكر والتعليم والصحافة في هذه الجماعة، فالكثير من هؤلاء الرّواد ما زالوا مجهولي التراث الأدبي الذي أنجزوه في عشرينات وثلاثينات النصف الأول من القرن العشرين، وليس من المبالغة القول بأنه قد تكون هناك مخطوطات لمؤلفات ولكتب موجودة عند بعض ذوي هؤلاء الرّواد، الأمر الذي يسوّغ لنا القول بأن الشارقة عرفت الكتاب مدوّناً أو مخطوطاً قبل 100 عام أو نحو ذلك، وعلى سبيل المثال حاول إبراهيم المدفع (مواليد الشارقة 1909-1983) إصدار صحيفة بعنوان (عُمان) في العام 1927، ومن يفكر بإصدار صحيفة في ذلك الوقت البعيد، ليس من المستبعد أن يكون وضع بعض الكتب على شكل مخطوطات.
تاريخ جماعة الحيرة يخبرنا عن شخصية متعلّمة مثقفة أقدم من المدفع، وهو الشاعر سالم بن علي العويس الذي ولد في الشارقة في العام 1887، وتوفي في العام 1959،.. فهل هناك كتب مخطوطة غير الأشعار قد تكون مجهولة لهذا الشاعر الذي يتردد اسمه إلى اليوم عند الحديث عن تاريخ الشعر القديم في الإمارات؟.
ويشير الناقد عزت عمر في إحدى دراساته، نقلاً عن الباحث في الثقافة الشعبية الإماراتية عبدالله عبدالرحمن.. «.. إن مجلس سالم بن علي العويس في الحيرة كان بمثابة نادٍ أدبي يطّلع زائروه على الجرائد والمجلات الأدبية الصادرة من بلدان عربية مختلفة..» «مجلة الحيرة /العدد 1 يناير/كانون الثاني 2019». ولنعلق هنا أو لنلاحظ هنا أن ذلك النادي الأدبي في الحيرة في العشرينات من القرن العشرين هو في الوقت نفسه مكتبة، أو على الأقل شبه مكتبة بمكوّنات أولية تماماً، ولكنها مكونات ثقافية هي أحد جذور الكتب والكتابة والمكتبات في الشارقة.
ولد الشاعر مبارك بن سيف الناخي في الشارقة في العام 1900 وتوفي في العام 1982، والمهم كما يلاحظ القارئ هو الزمن الذي ولد فيه هؤلاء الشعراء وهؤلاء المتعلمون والأدباء والقدامى، وكانت ذروة عطاءاتهم وهم شباب في العشرينات والثلاثينات في النصف الأول من القرن العشرين، وإذا أردنا أن نتحدث افتراضياً فقط على شكل تساؤلات، نقول كيف يمكن العثور على المخطوطات الأولى لشاعر مثل مبارك سيف النّاخي، الذي كان على اتصال بروّاد عرب في الفكر والسياسة والأدب في زمنه مثل شكيب أرسلان، وعبدالوهاب حجي، وغيرهما من رموز متعلّمة مثقفة؟.
من شعراء الشارقة الأوائل، ويعتقد أن في حوزة ذويهم مخطوطات ومؤلفات تؤشر على الجذر الثقافي للشارقة منذ نحو 100 عام نذكر أيضاً محمد بن علي المحمود 1911-2002، وهو شاعر ورجل علم وفكر، فتتلمذ على يد علماء وشيوخ ثقافة ودين، وبالعودة إلى الفترة التي ولد فيها هؤلاء الروّاد الشارقيون يبقى السؤال قائماً.. من بمقدوره من الباحثين المتخصصين الإماراتيين اليوم أن يكشف النقاب عن كتب ومخطوطات لهذا الرعيل التنويري من الشعراء والأدباء؟.
هذه نماذج مضيئة وحيّة في الذاكرة الثقافية الإماراتية، بل، وكانت هذه الشخصيات على صلة وصداقة بكتّاب وأدباء وعلماء عرب من بلاد الشام ومصر والعراق في العشرينات والثلاثينات والأربعينات من النصف الأول من القرن العشرين، فلا تخلو هذه الاتصالات والعلاقات من كتب متبادلة، ورسائل أدبية متبادلة أيضاً تؤشر على الوعي الثقافي المبكر لروّاد الأدب والتعليم والكتابة في المنطقة بشكل عام، وفي الإمارات بشكل خاص، وفي الشارقة بشكل أخصّ.

لغة المخطوط

تنطق المخطوطات بلغة ثانية غير لغة الأدب أو التاريخ أو النصوص التي تحملها، فالمخطوط شاهد على التاريخ الثقافي للمكان وبرهان مادّي عليه، وتكفي الإشارة هنا إلى دار المخطوطات في الشارقة التي تضم أكثر من 1500 مخطوطة، والدار إلى جانب أنها مَعْلَمٌ ثقافي تراثي علمي، هي أيضاً مَعْلَمٌ آخر يضاف إلى المنظومة الجمالية الإسلامية في الأثر المعماري والثقافي في الشارقة.
إن المخطوطات هي أصول الكتب وجذورها، وهي أيضاً شواهد على تاريخ الشارقة الثقافي بوصفها، أي المخطوطات، شواهد على التاريخ الثقافي لأي مكان في العالم، لكن الفرق أن المخطوطات هنا في الشارقة تتصادى «أي من صوت الصّدى» مع الكتاب المطبوع المنجز المجلّد كأنه تحفة جمالية، والمخطوط إشارة على الماضي، فيما الكتاب إشارة على الحاضر والمستقبل، وفي كل الأحوال، نعود إلى القول إن الشارقة هي مدينة كتب ومكتبات منذ عشرات السنوات، ومشروعها الثقافي ينهض على جذور وأصول، ونرى تمثّلات هذا المشروع على الأرض، من هذه التمثّلات «مكتبة الشارقة العامّة»، وسوف نعود مرة ثانية إلى التواريخ وربط هذه التواريخ بالدلالات والإشارات والشواهد التي تعزّز الحقيقة الثقافية في الشارقة استناداً دائماً إلى التاريخ؛ إذ يعود تأسيس هذه المكتبة إلى العام 1925، وآنذاك، كان مقرّها حصن الشارقة، وتنقّلت من الحصن إلى قاعة إفريقيا إلى دائرة الثقافة، وأخيراً، وفي العام 2011 في مقرّها في ميدان قصر الثقافة، ومرة ثانية معمار عربي إسلامي جمالي مهيب يليق بالكتاب، ويليق بالشارقة التي تضم اليوم شبكات مكتبات عامة، وثقافية وأدبية ومتخصصة تجاوزت الخمسين مكتبة.

صروح ومنشآت

الشواهد، والصروح، والمنشآت الثقافية والمكتبة في الشارقة هي تعبير مادي ومعنوي لمشروع الشارقة الثقافي الذي نقول دائماً بأنه يعود إلى نهاية السبعينات من القرن العشرين، ولكن، وبعد ما حاولناه هنا في هذه المادة من جمع بين التاريخ وأعلامه وصروحه وبين قراءة استحقاقات الشارقة لألقابها الثلاثة، فإنه يبدو أن جذور مشروع الشارقة الثقافي تعود إلى عشرينات وثلاثينات النصف الأول من القرن العشرين؛ حيث كان التنوير والتثقيف والتعليم متطلبات فطرية عند رجال ونساء ذلك الزمن من مطاوعة ومن مطوّعات نساء قارئات ومتعلّمات يقلن الشعر «.. ابنة الماجدي بن ظاهر.. مثالاً..»، وربما هناك من يكتبنه على ورق ورقاع قديمة مجهولة يبدو البحث عنها مهمّة ثقافية ووطنية من جانب، ومن جانب آخر يبدو هذا البحث، لو جرى وتحقق، نوعاً من اكتشاف آخر للشارقة.. الشارقة ذات العواصم الثلاث.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"