الشجراتُ التحيّات

حل وترحال
04:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

أتجوّلُ في الحديقة العامة الملاصقة لمسكني في مدينة بلومنغتن في ولاية إنديانا الأمريكية، حيث أُمضي فصليْن دراسييْن، أستاذاً زائراً في جامعتها. الأشجار في الحديقة موزعةٌ على نحْو يبدو مدروساً. يوجدُ منطقٌ أو إيقاعٌ في توزيعها أو انتشارها، كبيرةً كانت أو صغيرة. من بينها شجراتٌ عظيمة مسِنّةٌ، وأُخرى فتيّةٌ حديثةُ العهْد. لكنّ الذي استوقفني عند العديد من هذه الأشجار هو وجودُ لوحاتٍ حجريّة قربَ جذوعها، وعلى كل واحدة من هذه اللوحات كتابةٌ مفادُها أنّ الشجرةَ المعنيّةَ هي تحيّةٌ إلى شخص ميت، على سبيل تكريمه، أو إبقاء لذكراه. وكل شجرة من الشجراتِ التحيّات تبرّعَ بغرْسها (أو بتكاليف غرْسها) شخصٌ، أو عائلةٌ، أو مؤسّسة، وقد ذُكِرَ اسمُ المتبرع على اللوحة الحجريّة، التي ثُبتتْ على الأرض قربَ الجذْع.

لقد أعجبتْني فكرةُ الشجرة - التحيّة. وقادتْني إلى التفكير في أنّ الشجرة في الأصْل هي تحيّةُ الطبيعة للبشر، ربّما لأنني أحب الأشجار، وأرى فيها أجملَ الكائنات الحية. والمدينةُ التي أسكنُ فيها الآن غنيّةٌ جداً بالشجر، وقد كان لي أنْ أشهدَ من شهر إلى شهر تحوّلاتِ الشجر، التي تُغيرُ وجهَ المدينة من آن إلى آخَر. وأجملُ ما رأيتُهُ في هذا المجال هو تعاقبُ الألوان المختلفة، حُلَلاً تلبسُها الأشجارُ وتخلعُها. ذلك أنّ أوراق الأشجار هنا في الخريف خصوصاً تتلوّنُ وتنضجُ كالأثمار، قبل أنْ تبدأ بالتساقط والتطاير، ناثرةً معالِمَ المدينة وشوارعَها وبيوتَها في فضاءٍ معلّقٍ بين التكون والتلاشي.

هكذا نشأتْ بيني وبين الأشجار صحبةٌ لم تقتصرْ على علاقتي بالحديقة العامة، حيث رأيتُ الشجرات - التحيّات.

وفي المدينة، وحوْلَها (على مسافاتٍ متفاوتة) غاباتٌ بِكْرٌ، أي غاباتٌ تعهّدَتْها الطبيعةُ بنفسها، ولم تزَلْ تتعهّدُها، دون تدخل من البشر، الذين اكتفوْا بتحويلها إلى محْميّات، وبإقامة بعض الممرّات الضيّقة في داخلها، لتسهيل التنَزه والاستمتاع بالنظر إلى إبداعات الطبيعة. يا لَلْبَشَر! من جهة يدْأبون على تذليل الطبيعة وانتهاكها، ومن جهة ثانية يحاولون المحافظةَ على عذْريّتها، بل يحاولون التمثلَ بِها أو مجاراتَها.

إنّ الحدائقَ العامة التي تُقامُ في المُدُن لا تبلُغُ، في الجمال والأناقة، ما رأيتُهُ في تلك الغابات البِكْر. فالأشجارُ في هذه الأخيرة عاليةٌ ومتقاربة، ولكنّ لكل واحدة منها كيانها وشخصيّتها، وتقفُ في تناسُق (طبيعيّ ) مع رفيقاتِها. وعلى أرض الغابة، يمكنُ أنْ يُرى العديدُ من الجذوع أو الأغصان الساقطة.. تتساقطُ أشجارٌ، وتنبتُ مكانَها أشجارٌ جديدة.. هكذا في سيرورة متواصلة تُتْقنُها الطبيعة ، التي تعملُ تلقائياً على تنسيق نفسِها بنفسِها. لقد وجدتُ في هذه الغابات البِكْر أجملَ تحيّة من الطبيعة إلى البشر، وخطَرَ في بالي أنّ الشجرات-التحيّات التي رأيتُها في الحديقة العامة، والتي أعجبتْني فكرتُها، هي نوعٌ من مجاراة الطبيعة. وقد عزّز خواطري هذه ما سمعتُهُ عن أساليبَ جديدة في صُنْع التحيّة بواسطة الأشجار . فبعضُ المؤسّسات في أمريكا (وخصوصاً شركات التأمين) تعرضُ على زبائنها أنْ يتلقّوا جميع رسائلهم منها بالبريد الإلكتروني بدلاً من البريد العادي، توفيراً للورق وحفاظاً على البيئة وصوْناً للأشجار. وكل من يقبل بِهذا العرْض تُغْرَسُ باسْمهِ شجرةٌ في حديقة عامة.

إنها، هي الأُخرى، فكرةٌ مبتكرةٌ حقاً. أنْ تكون المكافأةُ غرْسَ شجرةٍ باسْم الشخص الذي يَقبلُ بعرْض معين. ولكنّ الفكرةَ الأولى، غرسَ شجرة تكريماً لشخص ميّت أو تمسكاً بذكراه، هي الأكثرُ تجرداً، وبُعْداً عن المصلحة أو المنفعة، وهي تالياً أكثرُ تعبيراً عن معنى التحيّة، وأكثرُ غنىً بالدلالات، فهي تجعلُ الشجرةَ التي هي رمزُ الحياة قائمةً مقامَ الموت، ناطقةً بذكرى الميت المعْني بالتكريم. وفي هذا ربْطٌ عميقٌ وشاعري بين التحيّة والحياة.

لقد صادقتُ الأشجارَ في مدينة بلومنغتن. والطريقُ الذي أسْلكُه كل يوم من البيت إلى الجامعة ومن الجامعة إلى البيت، بت أعرفُ الأشجارَ على جانبيْهِ شجرةً شجرة. كلّما رمقْتُ واحدةً منها، رمقَتْني هي أيضاً، وبادلتْني التحيّة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"