الصوت الخفي للقلب

03:16 صباحا
قراءة 8 دقائق
* * الشارقة: محمدو لحبيب

يوقظ «مهرجان الفنون الإسلامية»، المُقام في دورته ال22 فينا الإحساس الفائق بعمق ودلالات الأشياء التي نمر عليها في كل لحظة، وفي كل يوم؛ لكننا في الأغلب ننسى أن نبصر عمقها المدهش، نتعود بتكرار رؤيتها عليها، فتصبح داخلة في مألوف يومياتنا.
وفي الحقيقة أن ذلك هو جوهر الفن بشكل عام، فهو الذي يحول المألوف إلى شيء متجدد يبهرنا عند كل مشاهدة؛ لكن المهرجان يقدم إضافة لذلك أبعاداً جديدة للفن الإسلامي المرتبط بشكل قوي جداً بهُويتنا وما يُسمى ذاكرتنا الجمعية، فضلاً عن ارتباطه بإيماننا وروحانيتنا المتكاملة.
الأعمال التي تعرض في هذه الدورة من المهرجان تختلف باختلاف مدارسها، وجنسيات فنانيها، وبلدانهم التي أتوا منها، وثقافاتهم الأولى التي تربوا ونشأوا عليها، ومن السهل على المتفرج والمتأمل للأعمال المعروضة أن يجد عملين مختلفين في كل ما ذُكر آنفاً؛ لكنهما سيتحدان من دون اتفاق مسبق في تعميق نفس الفكرة الروحانية الإسلامية، وإن بأسلوب فني مختلف.
إيريك ستاندلي أمريكي من مواليد 1968، صاحب تجربة فنية عريضة؛ حيث شاركتْ أعماله في أكثر من 120 معرضاً حول العالم، وهو مهتم بالجلوس مع العلماء الذين يدرسون أموراً من المفترض أنها بعيدة عن الفن، إنه يهتم بهندسة الحمض النووي، وتركيباته، تبهره الصورة التي يتجلى عليها ذلك ال«DNA»، فيقرر أن يغوص في عمقها؛ بحثاً عما وراء الشكل الهندسي.
في بحثه عن ذلك المعنى العميق والمتسع في مدى لا نهائي، يقرر ستاندلي أن يشارك في المهرجان بعمل يحمل عنوان: «الجوهر لا ينتظر»، إنه أمر يبدو طبيعياً لمن غاص خلف الحمض النووي، الذي هو الوحدة الأساسية والأكثر تأسيساً للحياة البشرية، محاولاً إدراك جوهرها.
يحكي لنا ستاندلي عن رحلة بحثه عن جوهر الأشياء، فيقول: «أنا أعتقد أن الوقوف عند الدلالات والمعاني الأولى التي تُنتجها مشاهدتنا أو تأملنا لأي شيء، هو أمر قاصر، ويحد من المعرفة، فالحقيقة التي يحملها أي شيء في هذا الكون، هي أنه أكبر وأشد اتساعاً في طبيعته وتركيبته مما نراه للوهلة الأولى؛ لذلك لا بد من التأمل، لا بد من الارتحال نحو ذلك الجوهر ومعرفة مكنونه».
ويعتقد ستاندلي أن رحلة المعرفة تلك هي رحلة لا تنتهي، ويفسر ذلك قائلاً: «كل شيء في هذا الكون يتمدد كما يقرر ذلك علماء الفيزياء من خلال أبحاثهم؛ لذلك فإن البحث عن جوهر أي شيء لن يتوقف، وسيظل مفتوحاً كمدى لا نهائي؛ لأننا في كل مرة نقترب فيها من إدراك الجوهر، سنجده يتسع، ويتسع ويتسع، إنه عالم لا يحيط به الإنسان، ولكن الشغف الحقيقي يكمن في محاولة الإدراك وفي تلك الرحلة التي تعطينا في كل لحظة تفاصيل فنية عديدة ومدهشة».
يؤكد عمل ستاندلي من خلال المشاهدة الأولى لمكوناته وهندسته المشعة بالألوان، أن التفاصيل لا تأتي أحياناً بالإدراك المباشر البصري، وإنما يتطلب الأمر استدعاء القلب، وكأنه يستدعي من خلال عمله هذا، الحقيقة الإيمانية المعروفة لدينا في ثقافتنا الإسلامية والتي تعطي للقلب عناية فائقة في مجال المعرفة، فهو في ثقافتنا مناط ومحل الإدراك كما نص على ذلك القرآن الكريم.
ستاندلي اشتغل من خلال عمله على تلك الفكرة الإسلامية، واستطاع بطريقة فنية ماهرة أن يفهمها ويجسدها فيه، معبراً في نفس الوقت عن علاقته بفكرة المدى التي اتخذها المهرجان شعاراً له في هذه الدورة، ويقول عن ذلك: «أعتبر أن تلك الفكرة التي يتحدث عنها العمل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والفن الإسلاميين؛ لذلك حاولت أن أعكسها من خلال استخدام كل خبرتي الفنية، والتي يمكنني القول إن فكرة المدى متأصلة فيها، وليست بجديدة علي، أنا أعتبر أن اشتغالي عليها في هذا المهرجان، هو استمرار طبيعي لمسيرتي الفنية، فطالما حاولت ابتكار قطع فنية تهتم بالمعنى المترابط العميق والمتسع للكون ككل من أصغر وحدة فيه إلى أكبر وحدة، ويمكنني القول إن العمل الفني بالنسبة لي دائماً أكبر في جوهره من الفنان ورؤيته الأولى؛ لذلك لا بد أن يستحضر اتساع المدى أمامه؛ كي يستطيع أن يخرج بعمل حقيقي وصادق ومعبر».
استخدم ستاندلي في عمله المعروض في المهرجان الخشب والورق كمواد أساسية في تركيبته؛ لأنها مواد بسيطة وشائعة الاستخدام؛ لكنها رغم ذلك تنطوي على مرونة فائقة وقدرة على التشكيل وفق رؤى متعددة وكثيرة.
الجوهر الذي بحث عنه ستاندلي فوجده شيئاً لا يمكن أن ينتظر أحداً، يرتبط في حقيقة الأمر برحلة أخرى وتغيرات هائلة في الحواس والجسد، وهي ممتدة بشكل لا يمكن تحديده بشكل فوري وشامل.

رحلة

إدراك هذا التأثير الذي تخضع له الحواس في تلك الرحلة هو الفكرة التي تقاطعت من خلالها الفنانة اليمنية دنيا الشطيري مع ستاندلي، فكلاهما بحث في التأثيرات الروحانية لرحلة الإدراك؛ لكن الشطيري في عملها الذي يحمل عنوان: «نبأ» اختارت أن تدرس تأثير الصوت على تلك الرحلة، وعلى الحواس فيها.
تحاول الشطيري في عملها أن تنقل العلاقة بين المشهد الصوتي الممثل في الأذان كمكون أساسي في شعيرة الصلاة، مع الطاقة الروحية الإيمانية التي يعكسها على الحواس في رحلة إدراكها العميق لاتساع وعظمة الكون وخالقه الذي تدعوه وتناجيه من خلال الصلاة.
تقدم الشطيري من خلال عملها مجموعة واسعة من احتمالات التعرض لأصوات معينة من أماكن وأوقات معينة، وتبرز من خلال ذلك علاقة الجسد وردود الأفعال العاطفية والحقيقية التي تظهر عليه؛ جرّاء تلك الأصوات؛ لكنها تركز كنموذج خلاق لتلك التأثيرات، على المدى العميق الذي تصله الروح حين تسمع الأذان، فالجسد عندها سيعكس ردود أفعاله الأولى على الروح مباشرة، محدثاً ما يشبه تحريكاً شاملاً ومتكرراً ولا نهائياً لبحيرة ماء صافية.
وتحكي الشطيري عن فكرتها المتمثلة في التأثير العميق للصوت على الروح قائلة: «إن المشهد الصوتي هو بيئة مادية نفهم من خلالها الفلسفات الروحية، إنه لغة أبدية تُعنى بخلق التوازن والانسجام، وربما هو بمعنى آخر رمز يتحد مع العديد من القوى الخفية التي توجد فينا دون أن نشعر».
التوازن والانسجام اللذان تتحدث عنهما الشطيري وتعبر عنهما في عملها، هو أساس رحلة البحث عن الجوهر الذي لا ينتظر كما يراه ستاندلي في عمله السابق، وربما هو الركيزة الأساسية التي يمكن للمرء أن يعتمد عليها أمام المعنى المتسع ومداه اللانهائي الذي سيواجهه بحسب فرضيات ستاندلي.
ويبدو بشكل عام أن عمل الشطيري رغم اختلاف ثقافتها ومكوناتها الانتروبولوجية عن ستاندلي، يشكل بطريقة مدهشة إكمالاً لفكرته، أو شرحاً وتفسيراً لها.
إننا حقاً أمام فنانين استطاعوا بأعمالهم المعروضة في المهرجان أن يشكلوا الوحدة الثقافية الفطرية لدى الإنسان من مختلف مشاربه واتجاهاته، وربما حققوا بذلك رسالة مهمة وعميقة للمهرجان، مفادها أن الفن الإسلامي في جوهره هو فن متسع باتساع العالم كله، وهو في تعبيراته مشهد كبير، يضم تفاصيل عديدة يمكن للمتأمل أن يجدها في فنون أخرى وبصيغ أخرى؛ لكنها تتخذ نفس المعنى.
الفن الإسلامي في مهرجان الشارقة أكبر من مجرد معرض يتسع لمدارس وتشكيلات عديدة تبدأ من الرسم العادي مروراً بالنحت والتركيب وصولاً إلى كل أشكال الفن المعاصر، إنه في الحقيقة منصة كبيرة تخاطب العالم كله من خلال نظرة إسلامية فنية لا ترى اختلافاً كبيراً بين البشر.

هاجس

البحث عن الروح، عن تجلياتها، هو الهاجس الذي حرك أعمال أريك ستاندلي ودنيا الشطيري، وهو بحث في مدى متسع لا يمكن الإحاطة به إطلاقاً، لكنه يبقى مثيراً للشغف، وتبقى المحاولات الفنية لإدراكه تأخذ رونقاً خاصاً، ليس فقط على صعيد البحث المعرفي، وإنما على صعيد الترسيم الشكلي لتلك المحاولات.
«نحن موجودون عندما ننعكس في الآخرين»، هي جملة مفتاحية شكلت منطلقاً لثلاثة فنانين من كولومبيا والأرجنتين والإمارات، مشاركين في مهرجان الفنون الإسلامية في دورته الحالية، للتعبير عن تلك التساؤلات الممتدة بدون نهاية حول الروح وعوالمها التي لا يمكن حصرها.
اختار ماريو وديانا رودريجز وراميرو كوارتز في عمل فني معروض في المهرجان بعنوان «نحن»، أن يقاربوا موضوع الروح الذي يشكل ركيزة مهمة في الثقافة الإسلامية من خلال البحث عن انعكاس الذات في الآخر، والنظر إلى ذلك الانعكاس باعتباره ليس إدراكاً كلياً، وإنما هو جزء مهم من ذلك الإدراك.
إنها الطريقة نفسها، التي حاول بها العلم الحديث أن يرصد ماهية الشيء المسمى بالإلكترون، فاعتمد على تلك التقنية «الفلسفية» نفسها، التي اعتمد عليها الفنانون الثلاثة، حيث انطلق من فكرة مُسلّمٍ بها وهي أنه لا يمكن تحديد شكل الإلكترون ولا تفاصيله الدقيقة بسبب سرعته الهائلة التي تبلغ سرعة الضوء، لكن يمكن في أحسن الأحوال إدراك أثره بعد أن يتحرك.
غالباً تعني كلمة «نحن» شيئاً متفرداً خاصاً بمجموعة محدودة، ولا يذهب في اتجاه الآخر، إذا ما اقتصرنا على المعنى الأوّلي اللغوي المألوف للكلمة.
غير أن عمل الفنانين الثلاثة سعى إلى تحرير مصطلح ال«نحن» من تلك المحدودية، وإعطائه مداه المتسع، من خلال البحث عنا «نحن» في انعكاسنا في الآخرين، إنه بتعبير آخر، نفس المعنى الذي قصده أريك ستنادلي في عمله «الجوهر الذي لا ينتظر»، حين اعتبر أن النظرة الأولى للأشياء لا تعطي حقيقتها، بل لا بد من الغوص في ما وراء المعنى المباشر والمألوف، لإدراك المدى اللانهائي الذي يتجلى من وراء تحرير الأشياء.
استعان الفنانون بعنصر الضوء وبهرمين اثنين مع قاعدة مربعة تدور بزاوية 45 درجة، كي تعطي دوماً رؤية مزدوجة بالنسبة للمتلقي.
ورغم جمالية العمل الذي قدمه الفنانون من ناحية توظيف الضوء والرؤية وزاوياها المتعددة، إلا أن أجمل ما فيه أنه بقي مفتوحاً على الأسئلة التي بدأ منها، وعلى تلك الثنائية المعرفية الممتدة دون انتهاء بين ال«نحن» وانعكاسنا، بين محاولة إدراك الروح واليقين باستحالة ذلك.
هذا البعد المفتوح على تساؤلات تتكرر، هو ما سمح ويسمح دوماً بإعادة المحاولة وبشكل فني جديد، وهو نفس ما صنعته الفنانة الإماراتية هند بن دميثان في عملها المعروض في المهرجان تحت عنوان «أنا هي، من كنت أو سأكون؟».

تطوير

استفادت الفنانة بن دميثان من مزيج من ثقافتها وتراثها المعماري الإماراتي الإسلامي، وأبحاثها الفنية في قسم الأبحاث والتطوير في ديزني، وعملها كأستاذة مساعدة في معهد كاليفورنيا للفنون، في تطوير تساؤلات الروح والجسد وحدود الأنا والآخر والعلاقة المشتبكة بينهما في تفاعل لا ينتهي ولا يمكن حصر مداه.
قررت بن دميثان في عملها ذاك أن تمزج بين النمط المعماري الإسلامي المعروف ب«المشربية» مع التكنولوجيا البصرية المجسدة في استخدام الشاشة والصورة والتلقي عبرها، لتجعل المتلقي يقف خلف الشاشة والمشربية، ليطرح تساؤلاته حين يبصر عبر الثقوب تفاصيل الروح المجسدة في الآخر، وطريقة حياته وتصرفاته: ما الذي يفصل الروح عن الجسد، وأين يقع كل منهما من الآخر؟
واعتمدت بن دميثان على الفكرة التقليدية المعروفة عن المشربية من كونها توفر بطريقة ما، حافظاً للخصوصية الشخصية، لكنها تسمح لمن يوجد خلفها باستعراض حياة «الآخرين» عبر ثقوب صغيرة، وأن يبصر تجليات تلك الحياة وعفويتها، وكأنه يشاهد بطريقة معينة ذاته.
يمكن القول بالنظر إلى كل تلك الأعمال التي تشترك في الفكرة نفسها الباحثة عن تجليات المدى في عمق الفكرة الإنسانية، إن الفن الإسلامي هو فن أكبر من أن يحصر حتى الآن في اتجاه محدود ومدارس تقليدية، بل هو فكرة تحمل مضموناً ما زال منفتحاً على العديد من احتمالات القراءة والتأويل الفني، عبر التشكيل والنحت، واستخدام تقنيات الكولاج، وحتى عبر استخدام التصوير والتكنولوجيا وغيرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"