الصيــن.. «أوراق اعتماد» جــديـــدة

02:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

النجاح المشهود والسريع الذي حققته الصين في هزيمة وباء الكورونا في مدينة «ووهان» الصناعية الكبرى، والمدن المحيطة بها «مقاطعة هوبي»، ومن ثم الانتقال إلى تقديم المساعدات للدول الأوروبية الغربية الكبرى والولايات المتحدة الأمريكية ذاتها.. كلها وقائع حققت للصين مكانة ريادية متميزة في مكافحة «الجائحة»، ودفعت بها بخطوات كبيرة للأمام في المنافسة على الزعامة العالمية.. وجاءت بمنزلة «أوراق اعتماد» جديدة للتنين الأصفر.
تواجه الصين اتهامات - أمريكية بالذات - بأنها تكتمت على انتشار الوباء في البداية، ثم قللت من أهميته وخطورته، وهو ما أشاع نوعاً من التراخي في مواجهته.. كما أن هناك اتهامات متبادلة بينها وبين الولايات المتحدة، بشأن التسبب في ظهور الوباء، سواء عن طريق الخطأ، أو كسلاح للحرب البيولوجية، وهذه أمور قد تنقضي حياة هذا الجيل، وربما حيوات أجيال بعده، من دون أن نقف على حقيقتها الأكيدة، ويظل الأمر المؤكد هو أن الصين قد أدارت معركة مواجهة الوباء لديها بطريقة ناجحة، وبأقل الخسائر، مقارنة بما نراه في أوروبا الغربية والولايات المتحدة هذه الأيام.


إدارة ناجحة للأزمة


فقد أدارت الصين أزمة انتشار الوباء في ووهان ومقاطعة هوبي بطريقة تتسم بالحسم والشمول، فأقامت حجراً صحياً عملاقاً يضم (60) مليون نسمة، فرضت فيه حظراً شاملاً على التجوال داخل المدن والحركة في ما بينها، ويهمنا هنا أن نشير إلى أن حظر التجوال والحركة في ووهان والمدن المحيطة بها، كان ضرورياً لمنع تفشي الوباء، كما أن العزل الصارم لمقاطعة «هوبي»، كان مهماً لمنع تسرب الوباء خارجها، حيث إنها تقع وسط الصين ذات ال (1400 مليون نسمة)، ولو تسرب الوباء إلى خارج المقاطعة، لكانت قد استحالت السيطرة عليه، ولوقع الضحايا بالملايين.
كما تم تجهيز المستشفيات على وجه السرعة - وبناء مستشفيات حديثة مجهزة - بالأجهزة الطبية اللازمة من معامل تحليل وكواشف حرارية وأجهزة تنفس صناعي ... إلخ. وتم توزيع كاميرات حرارية في الشوارع، قادرة على رصد أي شخص حرارته مرتفعة!
وقامت الحكومة الصينية بتوجيه جيش كامل من الأطباء وطواقم التمريض والفنيين المدربين، المزودين بالملابس الواقية والكمامات والقفازات ... إلخ. وتم توزيع كميات هائلة من الكمامات والقفازات على المواطنين، واستخدمت الروبوتات على نطاق واسع في مساعدة طواقم التمريض في الكشف على المرضى، وتوزيع الطعام والدواء في البيوت على غير القادرين على الحركة من المسنين وغيرهم. وترتبط كل هذه الكاميرات والروبوتات والأجهزة الطبية بشبكات كمبيوتر عملاقة تجمع المعلومات وتحللها، بحيث كانت حالة كل شخص داخل هذا الحجر الصحي الهائل معروفة بدقة، سواء كان مريضاً أو مخالطاً لمريض، أو مشتبهاً في مرضه إلى غير ذلك، بحيث يمكن التعامل مع حالته فوراً. وهنا نلاحظ أمرين بالغي الأهمية:
الأول: هو القدرة الكبيرة على تعبئة الموارد البشرية من أطباء وممرضين وفنيين، والمادية من أجهزة طبية، وملابس واقية، وكمامات... إلخ، وتوجيهها بسرعة إلى مركز انتشار الوباء، وهو ما يتطلب قدرات تنظيمية وإدارية متميزة.
ويتصل بهذه النقطة، تلك المرونة الكبيرة في إعادة توجيه خطوط الإنتاج الضرورية، لصنع ما يلزم من أجهزة وأدوات لمكافحة الوباء.. ثم للتصدير في مرحلة تالية، وهو أمر تسمح به الإمكانات الهائلة للاقتصاد الصيني الضخم. كما تتيحه الإدارة المركزية اليقظة للمعركة وضروراتها.


تقدم تكنولوجي هائل


الأمر الثاني بالغ الأهمية الذي كان له أهمية كبرى في إدارة المعركة ضد الوباء هو التقدم التكنولوجي الهائل للصين، وقدرتها على توظيف ذلك التقدم في مختلف الأنشطة الإنتاجية والحياتية عموماً، بما فيها العمل في مجال الصحة «ومكافحة الوباء»، إذ تملك الصين أجهزة كمبيوتر عملاقة متقدمة، وشبكات كمبيوتر هائلة قادرة على تسجيل ومعالجة قواعد بيانات شديدة الضخامة «big data». وقد استخدمت هذه الشبكات في معركة «ووهان» في تسجيل وتحليل كل تفاصيل عملية المكافحة وأحوال عشرات الملايين من السكان من المرضى والمخالطين لهم، والعلاج المقدم لهم.. إلخ، وتتصل كل الأجهزة «والروبوتات» والكاميرات الحرارية المعلقة في الشوارع.. إلخ بهذه الشبكة، بما يتيح إحكام السيطرة على كل تفاصيل الوضع، والتعامل معها.
وهنا يجب أن نشير إلى الاستخدام الواسع «للروبوتات»، بما مثلته من حماية لأرواح الطواقم الطبية والتمريض «إلى حد كبير وليس بصورة مطلقة طبعاً»، ومن توفير للجهد البشري.. وإلى استخدام تقنية «الطباعة ثلاثية الأبعاد» في إنتاج بعض الأجهزة والأدوات.


دور عالمي في المكافحة


كشف تفشي وباء «كوفيد - 19»، الشهير بكورونا عن أوجه نقص وضعف عديدة في النظم الصحية في أغلب الدول الغربية الكبرى، التي ضربها الوباء، والتي تباطأت كثيراً في التعامل معه بالجدية الواجبة بدافع الرغبة في تفادي الخسائر الاقتصادية، لتجد نفسها إزاء أوضاع متفجرة ستترتب عليها خسائر أكبر، فضلاً عن الخسائر في الأرواح التي لا يمكن مقايضتها بالأرباح والأموال.
ومفهوم أن سرعة انتشار الوباء لم تتح فرصة كافية لأغلب الدول لصنع ما يكفي من الأجهزة الطبية والملابس الطبية الواقية، ولا حتى الكمامات، وإن كان من الضروري ملاحظة أن تلك الدول لم تتصرف بالسرعة والمرونة الواجبتين في تحويل عدد كاف من خطوط الإنتاج للوفاء بمتطلبات الوقاية الضرورية من ملابس طبية وكمامات ... إلخ، فضلاً عن الأجهزة الطبية اللازمة كأجهزة التنفس الصناعي والكواشف الحرارية وغيرها.. ولم يكن أمام هذه الدول إلا اللجوء إلى الصين. وقد قدمت الصين مساعدات «وصفقات تجارية» من هذه الأجهزة والأدوات إلى نحو خمسين دولة في الشرق الأوسط «إيران والعراق ولبنان مثلاً» وإفريقيا.. وإلى عديد من الدول الأوروبية، خاصة تلك الدول التي ضربها «كوفيد - 19» بقسوة كإيطاليا وإسبانيا، وكذلك إلى الولايات المتحدة، كما أرسلت خبراءها للمساعدة في مكافحة الوباء إلى دول عديدة، في مقدمتها إيطاليا، التي كان لروسيا أيضاً دور بارز جداً في مساعدتها بالأجهزة والأدوات والمتخصصين.
وقد ساعد هذا الدور بشدة - كما ساعدت التجربة الناجحة في مكافحة الوباء - على تعزيز مكانة الصين العالمية، ودعم طموحاتها لمنافسة الولايات المتحدة على زعامة العالم، وهو الأمر الذي يدفع بعديد من المراقبين والمحللين إلى القول: إن الصين هي القوة العالمية الأولى المقبلة، بعد انتهاء أزمة كورونا، خاصة مع فشل الولايات المتحدة في القيام بأي دور دولي في مكافحة الوباء، ثم مع التطورات الخطيرة في تفشي الوباء داخلها، وعجزها الواضح حتى الآن عن مواجهته بصورة فعالة، والخسارة الاقتصادية الضخمة التي تواجهها، والضرر الكبير الذي لحق بهيبتها ومكانتها الدولية مع استمرار تفشي الوباء فيها، واحتلالها المركز الأول في عدد المرضى والوفيات.
غير أن القطع بمثل هذا الاستنتاج يبدو سابقاً لأوانه، في رأينا، أولاً: لأن المعركة لا تزال مفتوحة، وثانياً: لأن الولايات المتحدة لا يزال لديها الكثير من عوامل القوة، على الرغم من خسائرها الضخمة، وثالثاً: لأن الصين ينقصها الكثير من مقومات الزعامة العالمية، لكن هذا حديث يحتاج إلى تناول مستقل.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"