العالم تحت رحمة سباق التسلح

02:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد فراج أبو النور*

من الواضح تماماً أن العالم بات مقبلاً على جولة جديدة شديدة الخطورة من سباق التسلح؛ بعد إعلان الولايات المتحدة تعليق العمل بمعاهدة الحد من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى (من 500 إلى 5500 كم)، والرد الروسي بتعليق العمل بالمعاهدة، إضافة إلى اتخاذ موسكو إجراءات أخرى اعتبرتها ضرورية في سياق ذلك الرد، كما أعلنت روسيا رفضها للشروط الأمريكية لاستئناف الالتزام بالمعاهدة، بعد انقضاء مهلة الأشهر الستة. وبذلك أصبح مصير المعاهدة في حكم المقرر فعلياً.
كانت معاهدة الحد من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، قد تم توقيعها عام 1987 بين الرئيسين الأمريكي ريجان، والسوفييتي جورباتشوف؛ لوضع حد للتوتر الشديد، الذي نشأ؛ بسبب نشر الولايات المتحدة لمئات من صواريخ (بيرشينج -1/‏ وبيرشنج -2) قصيرة ومتوسطة المدى في بلدان أوروبا الغربية، الأعضاء في «الناتو»، ورد عليها الاتحاد السوفييتي بنشر صواريخ من طراز (إس إس- 20) على أراضيه، وفي بعض بلدان حلف وارسو- وقتها-، وتم بموجب المعاهدة تفكيك وتدمير أكثر من (2600) صاروخ- تحت رقابة متبادلة-، وهي التي كانت تمثل خطراً فادحاً على كل من بلدان أوروبا الغربية والمناطق الغربية من الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث إن قواعد تلك الصواريخ (النووية) كانت مستهدفة من جانب كل طرف للطرف الآخر، الأمر الذي كان يهدد بتدمير مناطق انتشارها تماماً؛ ولذلك تنفست دول أوروبا الغربية الصعداء، حينما تم توقيع المعاهدة.
إلغاء المعاهدة الذي بات في حكم المؤكد بحلول أغسطس/‏آب القادم، سبقته اتهامات متبادلة بانتهاكها بين موسكو وواشنطن لفترة طويلة؛ أهمها اتهام الروس لأمريكا و«الناتو» بأن «الدرع الصاروخية» الأمريكية التي تم نشرها في بلدان أوروبا الشرقية القريبة من حدودهم، يمكن تحويلها إلى الطابع الهجومي، وهي قابلة لحمل رؤوس نووية، كما تشعر روسيا بخطر شديد من التعديلات التي أدخلتها الولايات المتحدة على عدد من طائرات «إف- 16» المنتشرة في بلدان أوروبا الشرقية؛ بحيث تصبح قادرة على حمل رؤوس نووية، مع ملاحظة أن توسع «الناتو» شرقاً جعل كل هذه الأسلحة على مقربة شديدة من حدود روسيا الغربية والشمالية الغربية (في منطقة البلطيق).
أما أهم الاتهامات الأمريكية لروسيا بخصوص المعاهدة فهي نشرها الصواريخ (إسكندر) القصيرة المدى (500 كم) في مقاطعة كاليننجراد الغربية، المطلة على بحر البلطيق، والواقعة بين ليتوانيا وبولندا (انتقلت لسيادة روسيا كجزء من ميراث الحرب العالمية الثانية)، ما يعد (اختراقاً روسياً مضاداً وعميقاً) لخطوط «الناتو» الهجومية، التي تتزايد الحشود الأطلسية فيها بصورة مستمرة، ولما كانت صواريخ (إسكندر) قادرة على حمل رؤوس نووية، فإنها، بالرغم من مداها القصير، إلا أنها قادرة على ضرب عدد من بلدان أوروبا (الأطلسية) في مقدمتها: بولندا وألمانيا إضافة إلى بلدان أوروبا الوسطى الصغيرة.
والحقيقة أن توسع «الناتو» باتجاه الشرق قد أحدث انقلاباً في علاقات القوى الاستراتيجية في أوروبا، اعتبرتها روسيا تهديداً جسيماً لأمنها القومي، ما أجبرها على حشد قوات كبيرة على حدودها الغربية؛ لمواجهة ذلك التهديد، ثم جاء نشر «الدرع الصاروخية» في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية؛ ليزيد من إحساس موسكو بالخطر بدرجة كبيرة؛ ذلك أن مهمة «الدرع» الأساسية هي شل قدرة روسيا على توجيه ضربة نووية (انتقامية) مدمرة للولايات المتحدة، إذا بدأت الأخيرة بالهجوم (وهو ما يمثل أساس نظرية الردع النووي).
والواقع أن هذه الحقائق هي ما مثل أساساً لفرض سباق التسلح على روسيا منذ بداية القرن الحالي، فقد وجدت نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن تقبل بالحصار والاحتواء وتقزيم دورها الدولي كثمن لهزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة ثم انهياره. وتتحول إلى دولة من الدرجة الثانية، أو أن تواجه التحدي، وتحاول استعادة مكانة الدولة العظمى- عسكرياً واستراتيجياً على الأقل- وتدفع الثمن باهظاً لهذا الاختيار من اقتصادها ومستوى رفاهية شعبها.
وقد اختارت روسيا التحدي، أو بالأحرى فرضه الغرب عليها؛ لكنها حاولت أن تستفيد من درس إنهاك الاتحاد السوفييتي اقتصادياً؛ بسبب سباق التسلح. فلجأت إلى أساليب أقل كُلفة؛ بالاعتماد على تكنولوجيا دفاعية متطورة وغير باهظة التكاليف كتوجه أساسي، ومن هنا كان سبقها في تطوير تكنولوجيا الدفاع الجوي والصاروخي في المرحلة الأولى (كصواريخ إس- 300/‏ وإس 400) وغيرها من الصواريخ الدفاعية،.
ومن ثم انتقلت روسيا إلى تطوير تكنولوجيا هجومية (نوعية) في مقدمتها تلك التي أعلن عنها بوتين في الاجتماع المشترك لمجلس البرلمان الروسي (1 مارس/‏آذار 2018) والتي مثلت مفاجأة فعلية للغرب، وحققت بها موسكو سبقاً تكنولوجياً يحتاج الغرب (وأمريكا تحديداً) لسنوات حتى يلحق بها (ودعك من المبالغات الروسية التي تتحدث عن عقود!)، ومن أهم هذه الأسلحة: الصاروخ الاستراتيجي الثقيل «سارمات» ومجموعة الصواريخ النووية فائقة السرعة (فرط الصوتية) التي تصل سرعتها إلى عشرة أو حتى عشرين مثل سرعة الصوت (10 ماخ أو 20 ماخ) ذات الصفة الشبحية (غير المرئية) والقادرة على تغيير مساراتها؛ مثل: «كنجال» (الخنجر) و«أفانجرو» (الطليعة)، وعلى سبيل المثال فإن الصاروخ «سارمات»، الذي يجري الاستعداد لإدخاله الخدمة عام 2020 أو 2021 على الأكثر، هو صاروخ فائق السرعة، تبلغ سرعته أكثر من 20 مثل سرعة الصوت)- (20 ماخ)، ويتصف بالصفة الشبحية، وهو قادر على حمل (20 رأساً نووية).
والميزة الرئيسية لهذه الصواريخ الجديدة هي قدرتها على اختراق الدرع الصاروخية «الأمريكية»، والوصول إلى الأراضي الأمريكية، وهناك أيضاً الغواصات النووية الآلية (بدون بحارة) المزودة بالصواريخ، والقادرة على البقاء لمدد طويلة تحت الماء، وحمل صواريخ يمكنها إحداث «تسونامي»- أي أنها من أسلحة الحرب (الجيوفيزيقية) أيضاً.
وإذا كانت روسيا قادرة على إنتاج كل هذه الأسلحة المدمرة بموازنة عسكرية تدور حول (60 مليار دولار) سنوياً، أو أقل، حسب المعلن رسمياً، وهو بالتأكيد غير دقيق، فما بالنا بما تستطيع الولايات المتحدة إنتاجه بتقدمها العلمي الهائل، وبموازنة عسكرية تبلغ أكثر من (700 مليار دولار) عام 2018 وأكثر من ذلك عام 2019 (نصف الإنفاق العسكري العالمي).
وما بالنا بما تستطيع أن تنتجه الصين ذات الموازنة العسكرية التي تقترب من (200 مليار دولار) هذا العام! والتي دخلت مجال التجارب على الصواريخ فائقة السرعة (فرط الصوتية)! وما بالنا بما يمكن أن تنتجه دول كبرى كفرنسا وإنجلترا (والهند) وحتى «إسرائيل»! علماً بأن احتدام سباق التسلح للعملاقين يحفز السباق لدى الدول الصغيرة.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"