العراق.. نحو جمهورية ثالثة!

05:04 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد سيد أحمد*

لأول مرة منذ أكثر من 16 عاماً وتحديداً منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 بعد الغزو الأمريكي، شهد العراق تظاهرات حاشدة ضمت مئات الآلاف وشملت مختلف المناطق العراقية، خاصة بغداد العاصمة ومحافظات الجنوب، حيث اندلعت الموجة الأولى من المظاهرات في بداية أكتوبر الماضي وتجددت مرة أخرى في نهايته وهي مستمرة حتى الآن.
أسفرت تلك المظاهرات عن مقتل أكثر من 250 شخصاً وإصابة ما يقارب ثلاثة آلاف، وهو ما أضفى مسحة كبيرة من العنف على تلك الاحتجاجات بسبب المواجهات بين المحتجين وقوات الأمن. وقد حملت الاحتجاجات العراقية العديد من الدلالات والرسائل وكذلك التداعيات المهمة على مستقبل البلاد.

ضد الطائفية والفساد وتردي الخدمات:

رفعت المظاهرات التي شاركت فيها جميع أطياف الشعب العراقي شعارات مناهضة ضد الفساد واستنزاف وإهدار موارد البلاد، الذي انعكس على تردي ونقص الخدمات الأساسية من مياه نظيفة وكهرباء وخدمات صحية وتعليمية، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة وارتفاع أسعار السلع، وفي الوقت الذي يمتلك فيه العراق ثروة نفطية ضخمة جعلته سادس مصدر للنفط في العالم ويستحوذ على 10% من إنتاج النفط، فإنه يأتي ضمن العشر دول الأكثر فساداً في العالم، وذلك وفقاً لمنظمة الشفافية العالمية، وهذا يعود بشكل أساسي إلى الفساد الذي يتغلغل في النظام الإداري للدولة وداخل النخبة السياسية العراقية التي كانت أكثر المستفيدين خلال السنوات الماضية ولم تعان كأغلبية الشعب العراقي، وهو ما انعكس في فشل مشروعات الإعمار وضياع مئات المليارات المخصصة لإعادة الإعمار، ودفع كل ذلك المواطنين في العراق إلى الاحتجاج على تدهور الأوضاع رغم موارد البلاد الطبيعية والبشرية الهائلة.

نحو جمهورية ثالثة

الاحتجاجات العراقية غير المسبوقة والشعارات التي رفعها المتظاهرون وشاركت فيها كل الفئات العراقية، رغم أنها خرجت لعوامل اقتصادية مرتبطة بتدهور ونقص الخدمات الأساسية، إلا أنها حملت في طياتها نزوعاً جماهيرياً كاسحاً نحو تأسيس الجمهورية الثالثة، أي تغيير النظام السياسي العراقي، حيث شهد العراق الجمهورية الأولى بعد العهد الملكي وبعد الاستقلال وحتى سقوط نظام صدام حسين، الذي قام بشكل أساسي على النظام الرئاسي الذي يمتلك فيه رئيس الجمهورية غالبية الصلاحيات التنفيذية، ثم الجمهورية الثانية بعد سقوط نظام صدام وتغيير هيكل النظام ليتحول إلى النظام البرلماني القائم على المحاصصة الطائفية وفقاً للدستور العراقي، الذي تتوزع فيه السلطات بين رئيس الجمهورية الذي يكون من الأكراد، ورئيس البرلمان الذي ينتمي إلى العراقيين السنة، ورئيس الوزراء الذي ينتمي للعراقيين الشيعة، ويستحوذ رئيس الوزراء على صلاحيات كبيرة وفقاً لهذا النظام، وغالباً ما يأتي وفقاً للكتلة التي تستحوذ على غالبية المقاعد في البرلمان، وقد أثبتت تجربة العقد والنصف الماضية تعثر هذا النظام وفشله في تحقيق طموحات وتطلعات الشعب العراقي في العيش الكريم والتقدم والازدهار والتنمية الاقتصادية، حيث أدى نظام المحاصصة الطائفية إلى صراع النخبة والكتل السياسية وتصاعدت الانتماءات الطائفية والحزبية على حساب الانتماءات الوطنية، ولذلك كانت مطالبات المحتجين العراقيين بتغيير هذا النظام عبر تغيير الدستور العراقي وكتابة دستور جديد يقوم على مفهوم دولة المواطنة التي تساوي بين العراقيين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية والطائفية واللغوية في إطار الدولة الديمقراطية العراقية الموحدة، ومن ثم تغيير قانون الانتخابات، وهو ما يعني تأسيس جمهورية عراقية جديدة، يكون ضمن أهدافها الفكاك من أسر التوازنات السياسية والعمل من أجل تحقيق التنمية والازدهار.

مقاومة ضد التغيير

رغم الخطاب الإيجابي من جانب المسؤولين العراقيين، خاصة الرئيس برهم صالح، الذي أبدى تفهمه لمطالب المحتجين ومساعيه لإقرار قانون انتخابي جديد بالتوافق، ورغم إعلان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي استعداده للاستقالة في حال وجود بديل لمنع حدوث فراغ سياسي، وإعلانه العديد من الإصلاحات الاقتصادية لتخفيف العبء عن المواطنين وتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في أعمال العنف ومقتل عشرات المتظاهرين، إلا أن هناك عقبات كبيرة تقف أمام التحول من نظام المحاصصة الطائفية إلى تأسيس نظام سياسي جديد، أبرزها أن النخبة السياسية الحالية خاصة الكتل السياسية الكبرى الفائزة في البرلمان لم تجتمع وتتفق على إحداث تغيير سواء في الدستور أو قانون الانتخابات من خلال البرلمان، حيث التزمت أغلب الأحزاب السياسية الصمت ولم تبد أي تحركات، خاصة تحالفي الفتح والبناء الرئيسيين، لكنها اقتصرت فقط على إعلان مقتدى الصدر رئيس تكتل «سائرون» انضمامه للمتظاهرين وتضامنه مع مطلب استقالة حكومة عبد المهدي وتشكيل حكومة تكنوقراط جديدة وتحول كتلته في البرلمان إلى موقع المعارضة.
كذلك هناك عقبة ترتبط بعدم وجود رؤية واضحة ومحددة من جانب المتظاهرين لرسم خريطة طريق جديدة يمكن ترجمتها على أرض الواقع، حيث خرجت المظاهرات بطريقة عفوية ولم توجد قيادات محددة لها حتى الآن، كما أن وقوع قتلى ومصابين في المظاهرات من شأنه أن يزيد من حدة تلك المظاهرات التي تشكل العامل الحاسم في الضغط على النخبة السياسية لتحقيق مطالب المحتجين خاصة فيما يتعلق باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة وتغيير نظام المحاصصة الطائفية. إضافة إلى ذلك هناك عقبات ترتبط بتزايد التدخلات الخارجية التي تسعى لتوجيه مسار الأحداث في اتجاهات معينة، كذلك دخول المرجعيات الدينية على الخط، وكل ذلك يشير إلى أن العراق يشهد تحولات مهمة عكستها الرغبة الشعبية المتنامية في تجاوز نظام المحاصصة الطائفية وإنشاء نظام جديد في العراق ومحاربة الفساد وتوظيف موارد البلاد.

«نظام» المظاهرات

ورغم أن عملية التحول من النظام السياسي الحالي في العراق القائم على المحاصصة إلى نظام جديد تواجه بصعوبات وعقبات عديدة خاصة مقاومة العديد من أطراف النخبة السياسية المستفيدة من النظام القائم، إلا أن المظاهرات والشعارات التي رفعتها واستمرار تلك الاحتجاجات أحدث شرخاً كبيراً في جدار النظام السياسي الحالي من شأنه أن يؤسس لتوجه العراق صوب إنشاء جمهورية جديدة تتلافى عيوب وثغرات النظام الذي ساد بعد الغزو الأمريكي والذي أوجد بيئة من حالة عدم الاستقرار والاضطراب والتحديات المختلفة التي شهدها العراق خاصة في السنوات الأخيرة، تارة مع تصاعد النزعات الانفصالية التي عكستها مساعي كردستان نحو الاستقلال، وتارة مع صعود تنظيم داعش الإرهابي، والآن يدخل العراق مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي مع تزايد واستمرار الاحتجاجات وتصميم الشعب العراقي على إحداث تغيير حقيقي في العملية السياسية، وفي كل الأحوال فإن العراق يشهد إرهاصات نظام سياسي جديد سوف تقرره الاحتجاجات ومدى قوتها وتنظيمها وردود أفعال النخبة السياسية تجاهها.

*خبير العلاقات الدولية في «الأهرام»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"