الغابة ورمادها

12:48 مساء
قراءة دقيقتين

خبران متجاوران في صفحة واحدة، يفتحان معاً الباب أمام القارئ الى تلك القارة السادسة والجهة الخامسة، ثعبان يقتل شاباً في اليمن معتمداً على عضلاته وليس على كيس السم الذي يتدلى من عنقه، وكلب صيد صغير ينقذ طفلاً من الغرق.

الحادثة الأولى وقعت في قرية يمنية، عندما أصر الشاب المتحمس على انقاذ مزارعي قريته من هذا العدو السام، والحادثة الثانية وقعت في امريكا، عندما جازف الكلب الصغير بإلقاء جسده في الماء من أجل انقاذ طفل لم يخطر بباله على الاطلاق ان استغاثته وصلت الى ذلك الكلب.

والمسألة ليست مجرد طرائف تنشر في الصفحات الأخيرة للصحف على سبيل تزجية الوقت أو البحث عن مشاهد مسلية لأنها غير مألوفة.. فالثعبان بري لم يجد من يروضه أو يمد له يده بكوب ماء أو طعام. لكن الكلب تربى في منزل يوفر له ساكنوه الطعام والشراب، وقد يغسلون جسده بصابون اغلى من الصابون الذي يستخدمونه لأنفسهم.

وما يسري على الحيوان ليس بعيداً عن الانسان فثمة كائنات برية رغم بشريتها من حيث الشكل والقوام والخصائص العضوية، وبالمقابل هناك كائنات هذبتها الثقافة والفنون وحولتها الى مخلوقات بالغة الشفافية.

والانسان الذي روض النمور، بحيث اصبح يدخل اصابعه بين انيابها وتعود سالمة، كان أولى به أن يروض نفسه وبني جلدته، الذين يأكلون لحوم بعضهم.

لا نعرف حرباً عالمية وقعت بين الافاعي أو الأسود. أو حتى الفئران، لكن مثل هذه الحرب وقعت بين البشر في عواصم مملوءة بالمكتبات والآلات الموسيقية والتماثيل وكتب القانون، حيوان يقتل على الفور وآخر يتحرك بفروسية لإغاثة الآدمي الذي استغاث به.

ومن حق الدولفين مثلاً على الانسان ان ينصب له تمثالاً على كل شواطئ البحار لأن هذا المخلوق الرقيق ما ان يرى آدمياً يوشك على الغرق حتى يحمله الى بر الأمان.

وقد ذكر لي صديق ممن ركبوا البحر عام 1982 مقلعين من بيروت الى تونس بعد الاجتياح أن دولفينا كان يتقدم السفينة، وكأنه شعر بأن العالم تخلى عن هؤلاء المقاتلين، فتطوع لإنقاذ من يغرق منهم في الطريق.

إن قابلية التدجين والترويض للحيوان معروفة ولها اساليبها، لكن ترويض الانسان وتهذيب غرائزه، وجعله متوازناً يعرف ما له وما عليه أمر اصعب من أي ترويض عرفه البشر على امتداد تاريخهم.

ولولا العقائد والفنون والمعارف والثقافات لبقي الانسان حيواناً ضارياً لا يعرف الحدود بين الحق والباطل والجميل والقبيح والعادل والظالم.

لهذا نشعر بالهلع ونحن نرى القوى العمياء تعيد الانسان رغم انفه الى الكهف، وتجرده من كل ما انجزه في ألفيات عدة.

وما استغرق التاريخ آلاف الأعوام لإنجازه يستطيع القادمون من الخرافة والكهوف ان يدمروه في يوم واحد، لأن البناء اصعب بكثير من الهدم.

خبران متجاوران، لكنهما متناقضان تماماً ولعل اقترانهما في صفحة واحدة وفي زمن واحد، له دلالة تتخطى الاستطراف، فالعالم له وجهان سواء تجسدا في الخير والشر والجمال والقبح، وفيه كما قالت الشاعرة سيتويل متسع للفراشة والأسد والعصفور والصقر.

لكن هناك من يصلون الليل بالنهار من أجل خلط الأوراق، ومزج نابل السم بحابل الشهد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"