الغناء بين الجاهلية والشعر الصوفي

13:31 مساء
قراءة 3 دقائق

يبدأ د. عمر جميل عثمان مؤلف كتاب الغناء في الإسلام عن دار العلوم العربية ببيروت كتابه من نشأة الغناء، حيث اعتبر أن الفطرة أصل كل شيء، وأن الإنسان الأول تغنّى بعفوية، وأطرب نفسه على النحو الذي استطاع، وباللغة التي عرف، وبأنه ما زالت في الإنسان نزعة حتى اليوم إلى أن يطرب نفسه من غير إفصاح، أو بما نسميه بالعامية الدمدمة. وربما كان منشأ الغناء والموسيقا من أن الإنسان الأول كان يسمع أغاريد الطيور، وهمسات الغابات، وأنين الزوابع وحفيف الأشجار، وخرير الماء، وتلاطم الأمواج.. كان يسمع كل هذه الأصوات الطبيعية فيهتزّ إما طرباً وإما خوفاً، فكيف له أن يتفاهم مع هذه الأصوات الجبارة العنيدة الآتية من عالم آخر غير مرئي؟ كان لا بد إذن من التفكير في مخاطبتها بلغتها ومحاكاة أصواتها، فنشأت الموسيقا الأولى.

أما عن نشأة الغناء العربي بصورة خاصة، فقد مهد لها المؤلف بالعودة إلى أصل الغناء ونوعه الذي كان متداولاً في عصور ما قبل الإسلام، وقد تناول بشيء من التفصيل الحياة الفنية في العصر الجاهلي ومواطن الغناء فيه، ثم وجد أن الغناء في الحياة الإسلامية هو امتداد لما قبله، توارثه العربي المسلم عن آبائه وأجداده في الجاهلية، وقد ظل هذا الغناء بدائياً في أول عهده إلى أن توسعت الفتوحات، ودخل المجتمع العربي عنصر أجنبي حاملاً معه أنواعاً وطرقاً متجدّدة من حضارته ومنها الغناء. فكانت سبباً من أسباب تطور هذا الفن في الأقطار الإسلامية وازدهاره. فبرز عدد من المغنين الكبار أمثال طويس، وجميلة، ومعبد، وسلامة القس في العصر الأموي، وايراهيم الموصلي وابنه اسحق وابراهيم بن المهدي واسماعيل بن جامع في العصر العباسي.

لكن المؤلف وعلى الرغم من توقفه عند أثر الحضارتين الفارسية والرومية على الغناء العربي، أشار إلى أن المغنين والمغنيات في المجتمع الإسلامي لم يأخذوا الأغاني الفارسية والرومية ويغنونها كما هي في الأصل، بل إنهم أخضعوها للذوق العربي وطبيعته التي تختلف عما هي عليه في بلاد فارس أو في بلاد الروم. وانتقل المؤلف إلى حكم الغناء في الإسلام عارضاً النصوص الواردة في القرآن والسنة النبوية والتي كانت محور بحث العلماء ونقطة اعتمادهم، حيث وجدها فريق منهم دليلاً على تحريم الغناء وحظره، في حين عدّها فريق آخر دليلاً على إباحة الغناء وتحليله، كما تعرّض المؤلف لمواقف الصحابة والتابعين من الغناء ثم مواقف الفقهاء أصحاب المذاهب كل على حدة. وذلك بالإضافة إلى قضية قراءة القرآن بالألحان، مقدماً خلال ذلك النصوص الشرعية الواردة بهذا الخصوص.

أما في الباب الثاني من كتابه فتحدث المؤلف عن الغناء عند الصوفيّين الذين استبدلوا كلمة الغناء بكلمة السماع، فتناول أولاً نشأة الصوفية والمراحل التي مرت بها هذه النشأة مبيناً حقيقتهم في ضوء الكتاب والسنة معرجاً في التحدث عن أهم المنطلقات الفكرية التي استقى منها التصوف في الإسلام أفكاره وتعاليمه، كما تناول ثانياً مفهوم الغناء عندهم مستعرضاً مواقف أبرز مشايخهم منه، وكيف كانوا يقسّمون جماعة المتصوفين في السماع إلى طبقات ومراتب، ثم تحدث عن الأثر الكبير الذي أحدثه السماع في الصوفية، ومدى تأثيره على قلوبهم من خلال الوجد وعلى جوارحهم من خلال الرقص والزعق وتمزيق الثياب. فتبيّن أن للصوفية مسالك وحالات غريبة يقومون بها عندما يأخذ السماع مأخذه منهم فتسيطر عليهم حالة الوجد، وأن هذه الأمور مباحة في رأي بعضهم مع بعض الشروط، في حين أباحها البعض الآخر على الإطلاق، أي لم يطلب لذلك أي شروط مقيّدة.

أما في الباب الثالث من كتابه، فتناول المؤلف أثر السماع في الشعر الصوفي، وكذلك مفهوم الشعر الصوفي وخصائصه، ومراحل تطوره، بالإضافة إلى علاقة الغناء بالشعر العربي عامة وبالشعر الصوفي بصورة خاصة، متناولاً أبرز الشعراء الصوفيين خلال القرنين الثالث والرابع الهجريّين متحدثاً عن أثرهم وتأثرهم في الغناء. إذ إن العلاقة التي تربط الغناء-أو السماع كما يطلق عليه الصوفية- بالشعر الصوفي، هي علاقة قوية ومتينة، لاسيما مع الشغف الكبير للصوفية بالسماع، وإقبالهم عليه باعتباره وسيلة لترقيق القلب والحث على الطاعة وتقوية العزائم. ويبدو ذلك واضحاً من أن كتبهم جاءت حافلة بالحديث عن السماع وحالة الصوفي النفسية وقت السماع، ودرجات السامعين، والوجد الذي يحدث للصوفية نتيجة للسماع، وما يثمره في قلوبهم من معرفة ذوقية. كما أن السماع عند الصوفية هو وسيلة أو أداة لإظهار حالة كامنة في القلب من خلال الاستماع إلى الأشعار والنغمات الموزونة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"