القيم الإسلامية ترتقي بسلوك الإنسان

. . لكل زمان ومكان
02:13 صباحا
قراءة 6 دقائق
أهم ما يميز الحضارة التي يتبناها الإسلام ويعمل على تحقيقها على أرض الواقع أنها تستهدف الرقي والسمو بسلوك الإنسان، باعتباره الصانع الحقيقي للتحضر والرقي، فلا قيمة لأي منشآت أو مظاهر للحضارة المادية مع وجود إنسان همجي أو مستهتر لا يعرف كيف يتعامل مع نعم الله ويوظفها التوظيف الأمثل لخدمة المجتمع والارتقاء بسلوك وأخلاق كل أفراده .
فماذا قدم الإسلام من قيم حضارية للارتقاء بسلوك الإنسان؟ وكيف دفعت هذه القيم والأخلاقيات بالإنسان ليعمل وينتج ويبدع في مختلف مجالات الحياة؟
في البداية يرصد لنا المفكر الإسلامي، د . محمد عبد الغني شامة أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر جملة من القيم الحضارية التي جاء بها الإسلام ليرتقي بسلوك الإنسان ليبني ويعمر وينشر القيم الأخلاقية الرفيعة، فيقول: حضارة الإسلام ليست حضارة شيئية فهي لا تهتم بالمبنى وتهمل الإنسان الذي يخطط ويفكر ويبني ويعمر، فالحضارة يصنعها الإنسان، وكلما كان الإنسان راقيا متحضرا، صنع حضارة متميزة، تحقق للمجتمع كل طموحاته وتطلعاته .
ويوضح د . شامة أن الإسلام ألزم المسلم بحالة انضباط سلوكي نادرة، فالمسلم فيما يتعلق بالسلوك العام ليس عشوائياً ولا عدوانياً، ولا يتصرف وفق ما يحلو له، بل هو منضبط السلوك، يحترم النظام الذي ارتضاه المجتمع، ويلتزم بالقانون الذي يطبق على الجميع، ولذلك دان الإسلام كل صور الفوضى السلوكية التي تهدر قيم المجتمع وأخلاقياته .
ويضيف: كل من تعرف بالمنظومة الحضارية الإسلامية يدرك أن هذا الدين العظيم يفرض على المسلم أن يكون منضبطا في كل تصرفاته، ملتزماً في سلوكه، مقدراً لكل خطوة يخطوها، مدركاً لعواقب كل تصرف يصدر عنه، وكل كلمة ينطق بها، ولذلك فإن الفوضى والعشوائية التي تنتشر في كثير من بلادنا العربية والإسلامية تمثل عدوانا صارخا على قيم الإسلام وأخلاقياته .

التحضر . . صناعة إسلامية

ويؤكد الإسلام عمليا من خلال منظومته الأخلاقية أن رقي الأمم ليس شعارات تتردد هنا وهناك، وليس مجرد سباق في ميدان الصناعة والتجارة والنهضة العمرانية، بل هو سلوك أخلاقي وأسلوب حياة يرتقي بالإنسان ويدفعه إلى العمل والإنتاج، فالإسلام دين يفرض على كل من يؤمن به أن يكون منظما يؤدي الواجبات الدينية والوظيفية والاجتماعية والإنسانية بحرص وإخلاص، وهذا جانب مهم للغاية من السلوك الإنساني الذي يقود صاحبه إلى الرقي والتحضر .
والسؤال المهم هنا: إذا كان الإسلام ينمي في نفوس المسلمين قيمة احترام النظام والقانون ويضبط سلوك المسلم بكل ما هو أخلاقي ويفرض عليه أن ينظم وقته ويعيش حياته ملتزما بالقوانين والقيم والأخلاقيات الحضارية، فلماذا تنتشر في بلاد المسلمين سلوكيات تغلب عليها الفوضى والعشوائية؟ ولماذا نشاهد في شوارع العديد من البلاد العربية والإسلامية كل صور الفوضى ومخالفة قواعد المرور، فضلاً عن الشجار، واحتلال الأرصفة من الباعة الجائلين، ومضايقة المارة والتسكع لمعاكسة النساء والتحرش بهن وغير ذلك من الأنماط السلوكية الرديئة؟
يقول د . شامة: ما نراه من تجاوزات سلوكية في بعض البلاد الإسلامية هو نتيجة طبيعية لغياب القيم الحضارية الإسلامية عن حياة كثير من المسلمين، خاصة الشباب الذي تربى على سلوكيات وأخلاقيات سيئة . وفي ظل غياب هذه القيم ليس غريباً أن تصبح حياتنا خليطاً عجيباً من الفوضى والاضطراب . والفوضى التي نعانيها في العديد من بلادنا العربية والإسلامية تمثل معصية لله ورسوله، فالإسلام دين يربي أتباعه على الانضباط السلوكي والالتزام الأخلاقي .
ومن هنا يدين د . شامة سلوك هؤلاء الذين يضربون بالقوانين والأنظمة عرض الحائط ويفرضون سلوكهم الفوضوي على المجتمع كله، ويؤكد أن استعادة البلاد الإسلامية مقومات النهضة والتقدم من جديد يفرض على الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية فرض النظام على كل رعاياها، وتطبيق القانون على كل مواطنيها والذين يعيشون في كنفها من دون تفرقة بين فقير وغني، ولا بين إنسان بسيط وآخر من سادة القوم .
ويضيف: إن احترام القوانين وفرض النظام على الجميع هو منهج الإسلام لتوفير أول مقومات النهضة والتحضر، فلن تتقدم شعوب شاعت الفوضى بينها وطبقت القوانين فيها على البسطاء وعفي منها الأشراف .
كما يؤكد أستاذ الثقافة الإسلامية بالأزهر أن تربية الأجيال الجديدة على احترام القوانين والأنظمة يعني حماية هذه الأجيال من الفوضى السلوكية التي تدمر حياتهم المستقبلية، فالإنسان الذي يتربى على الفوضى لا يمكن أبدا أن ينضبط سلوكه بعد ذلك، ولا يمكن أن يكون عنصراً مفيداً في منظومة حضارية تبني وتعمر .
إن احترام النظام كما يؤكد د . شامة هو البداية الصحيحة لاستعادة قيم النهضة الإسلامية بكل ما تعنيه من تخطيط سليم، وتحضر ورقي في الفكر والسلوك . وكما يكون الالتزام والانضباط مطلوباً وواجباً على مستوى الدولة يكون كذلك على مستوى الأفراد، فكل فرد مسؤول عن تنظيم حياته والتخطيط لمستقبله، واتخاذ الوسائل الصحيحة للوصول إلى الأهداف المرجوة . والتزام المسلم في حياته العامة والخاصة يوفر الكثير من جهده ووقته وماله، ويجعل حياته أكثر انضباطاً، وأيضاً أكثر بهجة وأكثر ثراء، ويجدد الأمل في نفوس كل أفراد المجتمع في مستقبل مشرق ينعم فيه الجميع بالخير والسعادة .

العمل المقبول عند الله

ويلتقط العالم الأزهري د . القصبي زلط عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر خيط الحديث من د . شامة ليؤكد أن الحياة الآمنة المستقرة التي يتطلع إليها المسلمون في عالم اليوم المزدحم بالصراعات ليس لها إلا طريق واحد هو الالتزام بمنهج السماء حيث أرشدنا القرآن الكريم إلى أن رغد العيش وضنكه من صناعة الإنسان، فهو ليس أمراً مفروضاً عليه، فكلما ارتبط الإنسان بمنهج السماء، وسار المجتمع على الطريق الذي رسمه الخالق لعباده، كان الاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذه هي عناصر التحضر والتقدم التي تحقق رغد العيش الذي يتطلع إليه الإنسان، فالله تعالى يقول: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"، فهذا النص القرآني الخالد يؤكد أن الإنسان بسلوكه وأخلاقه وعمله يصنع واقعه، ويتحكم في مستقبله، فمن عمل عملاً صالحاً بأن كان خالصاً لوجه الله، وموافقا لما جاء في كتابه العزيز، وما وجه إليه رسوله الكريم عاش حياة طيبة، وسعد براحة البال وسعادة الحال، وعلينا أن نتدبر هنا قول الله عز وجل: "وهو مؤمن"، فهذه العبارة تعني أن العمل لا يكون مقبولاً عند الله سبحانه إلا إذا كان قائماً على العقيدة الصحيحة، وصاحبه سلوك راق، والتزام أخلاقي . والمراد بالحياة الطيبة في الآية الكريمة الحياة الدنيوية التي يحياها المؤمن إلى أن يقضي أجله .

سنة لا تتبدل

وهكذا يتضح أن الالتزام بما جاء به الإسلام من آداب وأخلاقيات يوفر للإنسان السعادة والرضا، وهذا حال من يتبع الهدى الذي يأتيه من الله فهو لا يضل ولا يشقى، ومن يعرض عن هذا الهدي فله المعيشة الضنك في الدنيا، وله العقوبة القاسية في الآخرة .
يقول الحق سبحانه: " . . . فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى" .
هذه هي الوصية الأساسية لآدم عليه السلام وبنيه من بعده عندما أهبطه الله إلى الأرض ليقوم بدوره كخليفة، كانت الوصية في شكل سنة إلهية لا تتبدل ولا تتحول وتنطبق لا محالة إذا تحققت مقدماتها، فمن يتبع الهدى الذي يأتيه من الله، ويؤدي ما عليه من عبادات، ويلتزم في تعامله بالمنهج الإسلامي القويم، وتتجسد في سلوكه وأخلاقه كل القيم والأخلاق الإسلامية، فلن يضل هذا الإنسان أبداً ولن يشقى، ومن يعرض عن هذا الهدى فإن له ضنك المعيشة في الدنيا، وعدم الاهتداء والعمى في الآخرة، "ولن تجد لسنة الله تبديلاً" .
ويضيف: وعلى أساس من هذه السنة ستكون معاملة الله تعالى للأجيال المتعاقبة من المسلمين، فمن سار على منهج الله تعالى جلب لنفسه السعادة في الدنيا والآخرة، ويعيش في الدنيا حياة طيبة، يظللها العدل ويغلفها التكافل والتراحم، ويسودها الإيثار والمودة، ويفوز الناس في ظلها بخيري الدنيا والآخرة، ويحوزون عاجل الخير وآجله . "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" .
ومن أعرض عن هدى الله في كل شيء فإن عواقبه وخيمة، وهنا لا بد من تأكيد أن الفوضى السلوكية التي نراها في الكثير من مجتمعاتنا هي عدوان صارخ على تعاليم ديننا .

مراجعة مطلوبة

ويضم د . القصبي زلط صوته إلى صوت د . شامة ويطالب بمراجعة شاملة لكل سلوكياتنا وأسلوب حياتنا، ويقول: الواقع الذي نعيشه يؤكد إعراضنا عن هدي الله تعالى، في أسلوب حياتنا كلها خاصة أخلاقيات التعامل وهذه معصية لله ورسوله، وهذا الواقع المتردي الذي نعيشه يفرض علينا أن نعود إلى دستورنا الخالد نستلهم منه العلاج ونلتمس منه الحل .
احترام الآخرين والاعتراف بحقوقهم والتحلي بالأدب والذوق في التعامل معهم ليس أمرا غريبا على المسلمين ولسنا في حاجة إلى تعلم ذلك من الغربيين .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"