المخطوطات تهرب إلى المستقبل

جماليات
01:32 صباحا
قراءة 6 دقائق
محمد مهدي حميدة

عبر تاريخ متعاقب ارتبط الكتاب بالعديد من الظواهر الكبرى والمشاهدات الخالدة، وهو ما أدى به - في صنعته وبكل ما احتواه من رؤى وطروحات وأفكار أو مرفقات بصرية كذلك - لأن يكون سيداً مهيمناً في حضوره كما هو الحال تماماً في تسيده لأوقات غياباته، فهو إن حضر فقد حضر بمادته وسحر مضامينه، وهو إن قد غاب وجوده المادي وتوارى ظهوره أمام الأعين في وقت ما ولأي سبب كان، إنما يحضر - رغماً عن أي غياب - أيضاً كنصوص وأفكار وحقائق وافتراضات تعبر في طريقها نحو العقل البشري القادر على الحفظ والاستدعاء والإحالة والمقارنة والاستشهاد والتفكر وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالاطّلاع والإدراك والتحليل وإنتاج المعارف والثقافات ومواكبة أحداث الأيام ووصل الصلة حتى بين أماكننا الأرضية والأماكن النائية في الكواكب السابحة بمجرة درب التبانة وغيرها من المجرات إن أمكن للعلم بلوغ تلك الحيوات الكائنة على ضفاف التحري الأمين والجاد في أعمق أعماق نقاط الكون.
الكتاب حينما يمضي في مساره الصحيح ويحضر بين مريديه، فإنه لابد وأن تتأتى له بالقدر المتفاوت سطوته الكاملة وخوارقه المهيمنة على كثير من الأذهان والأفئدة، فهو ذلك الصنيع المعرفي الأعظم الناقل للعلوم والآداب على مر الزمان، وهو خزانة المعرفة الإنسانية المحفوظة بين غلافين أو عبر لفائف وضمن الخشب والنحاس والقماش والزجاج وعجائن الطين، حيث بدأ سطوع النص المكتوب منذ أمد بعيد، لما أقبل الإنسان على تدوين معارفه وعمل على خطها بأساليب شتى عبر الألواح والرقاع والورق، وهو ما منح الكتاب ومؤلفيه وصُنَّاعِه مكانتهم الخاصة في مجتمعاتهم، حيث ظل الكتاب مرآة عاكسة لعظمة الشعوب، إضافة لكونه الوسيط الأول للتعلم في تلك الأزمان السالفة، كما أنه الكاشف لجوانب شتى من حياة خاصة الناس وعوامهم.
لقد صمد الكتاب وعاش في خلوده الخاص ضمن برديات المصريين القدماء وعلى جدران معابدهم وخلال أحجارهم وشواهدهم الشاهقة، كما سطع نور الكلام من أرجاء حجر الديوريت الأسود الذي نقش عليه الملك البابلي حمورابي شرائعه وقوانينه، وولدت صفحات الكتاب المتعددة الأولى ضمن كتاب الأتروسكان الذهبي المكتوب في العام 660 قبل الميلاد، وهو الكتاب المحفوظ بمتحف التاريخ الوطني البلغاري في صوفيا، والذي يتألف من ست صفحات ذهبية صغيرة الحجم متوالية ومكتملة ومجموعة معاً بواسطة حلقتين ذهبيتين، وهو الكتاب الذي تتضمن صفحاته في ثناياها بعض النصوص الجنائزية إتروسكانية اللغة، وهي النصوص التي تتجاور مع بعض الرسوم التوضيحية لمحاربين وفارس أعلى جواد وقيثارة، بما يجعله حتى اللحظة هو أول تصور مكتشف ومعروف يجسد لنا هيئة وصورة الكتاب الحالي والمتداول بين أيادينا متعدد الصفحات، كما توهجت كذلك شموس الكتاب في حضارات إنسانية كبرى بالصين والهند واليونان وروما وبلاد الأمريكتين، وغير ذلك من الحضارات القديمة التي يكشف عنها وعن أسرارها مع مضي الأيام وتعاقب التواريخ، لتأتينا الكتب على هذا النحو من أزمانها السحيقة كي تحيا بيننا في حاضرنا - حيث هي باقية ولا تموت - كأفكار وفلسفات وحكايا وشرائع ورؤى واصلة بين أسلاف البشر وورثتهم اللاحقين.

همجية

غير أن الكتاب أو هذا المنجز الإنساني الفذّ، قد خسر معاركه للصمود وتوارت أنواره مرات عديدة وشهيرة في تواريخ همجية أراد مجرموها خلال الحروب أو تحت سطوة التسلط الغوغائي والجهل والرغبة المرضية في التدمير أن يقتلوا العقل وأن يوقفوا أنهار الورق الجارية، فلوثوا الماء والهواء والوجدان حين حرقوا ودمروا وأبادوا قديماً مكتبة قصر شيانيانج ومحفوظات الدولة في الصين ومكتبة الإسكندرية القديمة ومكتبة أنطاكية في سوريا القديمة، ومكتبة بيت الحكمة في بغداد، ومكتبة الحاكم الثاني بقرطبة، ومكتبات غرناطة وطليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة ومكتبة ابن سينا في أصفهان، ومكتبة قلعة «ألموت» ومكتبات القسطنطينية، وغير ذلك من مكتبات عظيمة كانت قد فقدت عن عمد وجهالة وجودها النادر وكنوزها النفسية من أمهات الكتب التي لم يعد معظمها للحياة مرة أخرى خاصة ما كان منها ذو نسخة وحيدة وفريدة ذابت إلى النسيان وتلفحت بالفناء وذهبت إلى الموت محكومة بإعدام همجي ظالم، ما أفقد العقل البشري قسطاً من مكونه المعرفي وجهده الفكري، ذلك الذي يصعب تقديره على الوجه الصائب أو حتى إدراك مدى أهميته في مسار التراكم الحضاري وصياغة الوجود الإنساني العاقل والمتعلم والعارف والمدرك لكافة القيم والأفعال والسلوكيات المحكومة بضوابط أو تلك الهاربة حتى إلى خلل غير مرغوب في حدوثه.
وإلى جانب ذلك العمد وتلك القصدية في التعدي من قبل صنوف بشرية مسعورة، نجد أنه قد تآمرت الطبيعة أيضاً عبر فيضانات وزلازل وحرائق وبعض أحداث كبرى عارضة لكي تدمر في طريقها وعن مصادفات سيئة وسوء طالع لا أكثر مكتبات أخرى عظيمة في اليابان والبرتغال وإندونيسيا وماليزيا ونيكاراجوا وجزر المالديف وتايلاند وسريلانكا والأناضول وسومطرة وفي غير ذلك من البلدان التي لم يستطع أي جهد إنساني إنقاذ السواد الأعظم من كنوزها لكي يتفادى بطريقة أو بأخرى مرارة الانزلاق نحو التلاشي والعدم.
فيما لم تكن مقاومة الكتاب هينة في مقابل كل هذا الدمار والإحراق والإفناء المتعمد، حيث نجح الكتاب الموريسكي - على سبيل المثال - في محاولته الشهيرة لمواجهة هجمات العدوان العاتية، واستطاع في نهاية المطاف أن ينال خلاصه وأن يبقى حياً لأمد بعيد لما لاذ بالفرار إلى حيث لا يمكن التصور أو حتى التوقع والتخمين مقرراً بذلك العيش والتنفس ملفوفاً بالأقمشة الكتانية والقش وأحجار الملح وأكياس الخزامي المقاومة للرطوبة، فقبع لعدة قرون داخل الجدران وخلال السقوف العلوية، كي لا يواجه نفس مصير أنداده وما كان في حكمهم من المخطوطات البائدة، تلك التي فقدت وجودها على أيادي جحافل المعتدين، وظلت الكتب حبيسة داخل مكتباتها السرية المختبئة في جوف الجدران وسقوف المباني الأندلسية إلى أن عثر على أوائل تلك الكتب المفرج عنها والمبعوثة مرة أخرى إلى حياة النور أثناء انهيار بعض من تلك المباني أو خلال عمليات الترميم والبناء اللاحقة، التي ألمت بعدد من تلك الأبنية التقليدية المتداعية، والتي كان قد سكنها الموريسكيون قبل تعرضهم للملاحقة والتشريد والطرد في نهاية العقد الأول من القرن السابع عشر الميلادي نتيجة لمرسوم كان قد أصدره الملك فيليب الثالث.
أما الكتاب المدهش والأعجوبة في حيل عبوره وتنقله عبر الزمان فقد مضى مواصلاً سحره الأخاذ من خلال أفكار كثيرة تتعلق بصياغة شكله المادي أو استحداث وسائل عدة تتعلق بكيفية تدوينه وطباعته ونشره، بل إن هذه الأفكار قد أمكن لها مؤخراً أن تتخطى كل اعتياد سائد وأن تدفع الكتاب في مساره وانطلاقته المفاجئة لكي يعبر القراء الآنيين ويتجاوز وجودهم لأجل مخاطبة قراء آخرين مستقبليين وقابعين هناك في جوف التاريخ الآتي وعلى بُعد مئة عام تماماً تبدأ من انطلاق فكرة فذة قامت الفنانة الاسكتلندية كاتي باترسون بتصميمها في العام 2004 وأطلقت عليها اسم «مكتبة المستقبل»، وهي الفكرة التي تختار كاتباً واحداً كل عام من بين مئة من أشهر الكتاب في العالم على مدار الفترة الممتدة من عام 2014 وحتى العام 2114 كي يقوم كل واحد من هؤلاء الكتاب بتأليف مخطوطة موجهة لقراء المستقبل القادمين بعد قرن من الزمان، تظل خلاله مخطوطة الكتاب سرية تماماً بحيث لا يمكن أبداً معرفة ما تتضمنه وما تحتويه من قبل أي قارئ أو إنسان آخر غير الكاتب الذي كتبها ذاته، والذي سيخاطب من خلالها قراء مجهولين لا يمكن له أن يلتقي بهم أبداً، حيث يتم طباعة المخطوطة بعد مئة عام على أوراق سيتم صناعتها خصيصاً من مكونات أشجار غابة نرويجية تقع في الحزام الأخضر للعاصمة أوسلو، والتي تم اختيارها لتكون مقراً لإقامة هذه الكتب، وأيضاً لغرس ألف شجرة، ومن ثم تستخدم أوراق الألف شجرة هذه في طباعة كل كتاب من هذه الكتب المئة المختارة، ومن بينها مخطوطات قام بكتابتها كل من الروائية الكندية مارجريت أتوود والكاتب الإنجليزي ديفيد ميشيل والروائية التركية آليف شافاق.
وعلى هذا النحو تتنامى حياة الكتاب الجميل والمدهش العابر لكل الأزمان، ويستمر نور وجوده وألقه، كما تتواصل رغبته في العيش والمقاومة وبلوغ أقصى درجات المعرفة والتفاني من أجل ارتقاء الإنسان وتطوره ومتابعة نبوغه وإبداعه اللانهائي الجليل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"